حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[بعض أدلة عدم الخروج من النار]

صفحة 325 - الجزء 1

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أخبرنا - وهو الصادق الخبر محمود الأثر - أنَّ ما به شيءٌ يباعدنا من النار إلا وقد ذكره لنا وعلَّمَنا إياه بما علَّمه به ربه علام الغيوب، ولا شيء يقربنا من الجنة إلا وقد دَلَّنا عليه، وأوضح لنا وجهه. فهذا لم يُبْقِ لنا حجة على ربنا، بل لله وله الحجة البالغة علينا، فإنْ نجونا فبتعريفه لنا ودلالته إيانا، فجزاه الله عنَّا خيراً، وإن هلكنا فبسوء اختيارنا رُمينا، ومن أنفسنا أُتينا، إذْ نحن لا نترك ما يباعدنا عن النار، ونطرح ما يقربنا من الجنة إلَّا لأحد أمرين: إما لشكٍّ في أمر المخبِرِ وتبصير الْمُبَصِّر، فذلك كفرٌ نعوذ بالله منه؛ إذ قامت الدلائل على صدقه، وإما تعمُّداً للمعصية وإلقاءً بالنفس عن معرفةٍ في الهلكة، فذلك ما لا يرحمنا فيه راحم، ولا يعصمنا منه عاصم.

  فالواجب أن ننظر لأنفسنا في طرق النجاة، وأسباب الحياة، والتباعد عن النار، والتقرب إلى دار القرار، ومع ذلك فإنها جنة لا تشبه الجنان! فيها قصور مشيدة، وقِباب معمَّدة، وعقود مكلَّلة، وخيام مجلَّله، وأنهار مُطَّرِدَة، وحدائق منسردة⁣(⁣١)، مشيدة بالذهب والفضة، معمدة بالياقوت الأحمر، والزَّبَرْجَد الأخضر، واللؤلؤ والجوهر، طينها من المسك والعنبر. وكيف يصف الواصف أمراً قال له الجبار القادر: كن فكان؟! هل يزهد فيها زاهد؟! أو يرقد عنها راقد؟!.

  فأما النار: فالنار غضب في غضب، ولهب يعلوه لهب، وأدراك متناهية في الهبوط، ونِقم دائمة السقوط، لا يُرحم باكيها، ولا يُشكى شاكيها، كلما نضجت جلودهم بدلهم الباري جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، فلِمَ ينامُ هاربها، ويرد نصيحة المخوِّف منها.!

  قوله #: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ عَبْدٌ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ.

  الرُّوح: هو أصل الحياة، وللناس فيه اختلاف كثير، قد ذكرناه في شرح الرسالة الناصحة. وهو هاهنا جبريل # لما كانت به حياة العباد في دينهم سُمي رُوحاً لذلك. والقُدُس الله الطاهر من كل قبيح. أصل التقديس الطهارة، فأُضيف إليه إضافةَ تَكْرُمَة، فهو روح الله، كما نقول في عيسى بن مريم # من الآدميين. والنفْثُ الإلقاء من الفم، وأخذه من الحيَّة تنفث


(١) أي مُتَتابِعُة وَمُتَّصِلَة ومُتَّسِقَة، قال في اللسان (٣/ ٢١١): السَّرْدُ فِي اللُّغَةِ: تَقْدِمَةُ شَيْءٍ إِلى شَيْءٍ تأْتي بِهِ متَّسِقاً بعضُه فِي أَثر بَعْضٍ مُتَتَابِعًا.