حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[البلوى والابتلاء وأنواع الابتلاءات]

صفحة 359 - الجزء 1

  والسعي في مرضاته مُؤْذنٌ بوجوب المبادرة إلى ما يُرضيه من الأفعال والأقوال والاعتقادات، فنقول الحقَّ ونعتقد الحقّ ونعمل بالحق ونُوقن من الدنيا كما أمرنا الصادق المصدَّق ÷ بالفناء إذْ هو نهايتها لا محالة، فلا نجمع لها شتاتاً ولا نرمّ لها بتاتاً، ولا ننافس في عمران قصورها وتشييد دورها ونحن نعلم أنَّ إلى القبور مصيرنا، وإلى التراب مرجعنا.

  وفناء الدنيا: ذهابها وخرابها، والفناء في أصل اللغة الخراب والتفرق، يقال شيخ فانٍ أي: بَلِيَتْ جِدَّتُه وخَرِبتْ بنْيتُه، فهذا اليقين إذا حصل لنا في الدنيا زهدنا في استيطانها، وإذا أيقنَّا ببقاء الآخرة دعانا ذلك إلى الرغبة فيها والطلب لها، وإذا طلبناها حقَّ الطلب فليس إلا بأنْ نسعى لها سعيها، ونعملَ عملها، وهو القيام بموجبات ما كُلِّفْنا فعلاً وتركاً، والتحفّظ مما يُفَوِّت ثواب ذلك علينا من الكبائر والموبقات لئلا تبطل أعملنا ويضل سعينا.

  قوله #: وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَأَنَّكُمْ بِالدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ وَبِالْآخِرَةِ لَمْ تَزَلْ، أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ مَنْ فِي الدُّنْيَا ضَيْفٌ وَمَا فِي يَدِهِ عَارِيَّةٌ، وَالضَّيْفُ مُرْتَحِلٌ وَالْعَارِيَّةُ مَرْدُودَةٌ.

  الضيف: هو الوافد وهو مأخوذ في الأصل من الإضافة، وهي⁣(⁣١) تقريب الشيء إلى الشيء، فلما وصل سُمي ضيفاً، وهو من أشهر ما نطق به العرب فلم نفسر إلا معناه في الأصل. والعاريَّة: هي إباحة المنافع، وأصلها العطاء، لا فرق بين أعاره وأعطاه.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أمرنا بأن لا نركن إلى الدنيا، وأن نعمل لما بعد الموت، والذي بعد الموت هو الهول الأعظم والفزع الأكبر؛ لأنه الحساب والعقاب، والجنة والنار، فمن عمل لما بعد الموت نجا من المهلكات وفاز بأسباب النجاة، ثم أكَّد ذلك # بقوله: كَأَنَّكُمْ بِالدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ، لأن ما زال فكأنَّه لم يكن، وبالْآخِرَةِ لَمْ تَزَلْ، لأن ما بقي واستقر فكأنه لم يزل. ثم مثَّل ذلك بأحسن مثلٍ، وكشف عن وصف الحال بقوله #: إِنَّ مَنْ فِي الدُّنْيَا ضَيْفٌ، فهل علمت للضيف إقامةً أو دواماً؟! أفليس هو كفيء الغمام، أكثرُ الضيافة ثلاثٌ، ثم لا يعاق عن الانبعاث، ومثَّل ما في يديه بالعاريَّة التي يسرع ارتجاعها ويجب ردها عند المطالبة بها، وصرَّح بما ذكرنا من المعنى بقوله #: وَالضَّيْفُ مُرْتَحِلٌ وَالْعَارِيَّةُ مَرْدُودَةٌ.


(١) في النسخة (أ) ونسخة أخرى: هو.