حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[مسألة الرزق والتفضل، وتعلقهما بالصلاح والفجور في الدنيا والآخرة]

صفحة 361 - الجزء 1

  والآخرة مخالفة لها وهي وعد صادق بثواب المطيعين، ثوابٌ حرَّمه على الفاجرين، كما قال تعالى حاكياً عن أهل الجنة وأهل النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ٥٠}⁣[الأعراف] فانظر إلى حكم الدنيا كيف خالف حكم الآخرة، قال تعالى في الدنيا: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ٢٠}⁣[الإسراء] ونحن نشاهد ذلك ونعلمه ونحكم به، حتى لو مات يهوديٌ له ولدان أحدهما مسلم والآخر يهودي لحكمنا بالمال لليهودي دون المسلم، فلو قيل لنا: لم فعلتم؟ قلنا: أعطاه الله إياه، قالوا: مع كفره؟! قلنا: لأجل كفره، وذلك أبلغ.

  فأما الآخرة فهي وعدٌ صادق يحكم فيها الله الملك القادر، وقد أخبرنا بحكمه أن لا رحمة للكافرين الفاجرين، ولا نعمة تصل إلى أحد من الفاسقين المارقين، وأنه قادر على الوفاء بما وعد لأنه قادر لذاته، فلا يجوز عليه العجز، فتفهَّمْ رحمك الله تعالى معاني كتاب الله من أربابه، وأطلب هذا العلم من ورثته ونِصابه، ولا تخبط العلم خبط السلَمَة⁣(⁣١) شوكه وورقه، أعط القوس باريها، وأنزل الدار بانيها، واسأل فقد كُفيت، واحمد إذْ شُفيت.

  قوله #: فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً نَظَرَ لِنَفْسِهِ وَمَهَّدَ لِرَمْسِهِ، مَا دَامَ رَسَنُهُ مُرْخَى، وَحَبْلُهُ عَلَى غَارِبِهِ مُلْقَى، قَبْلَ أَنْ يَنْفَذَ أَجَلُهُ، فَيَنْقَطِعَ عَمَلُهُ.

  التمهيد: التوطئة⁣(⁣٢). والرَّمْس: هو القبر، سمي رمساً لأن الميت يُرْمَس فيه. والرَّسَن يختص بذوات الحافر في العرف، وهو في الأصل الخطام. والإرخاء: نقيض الشد. والحبل في البعير كالرسن في الفرس. والغارب: مجمع الكَتِفَين ومغرز العُنُق. والإلقاء: هو الطرح.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن النبي ÷ دعا بالرحمة - وهو مستجاب الدعوة - لمن نظر لنفسه، وهذا غاية الشفقة علينا والنصيحة لنا أنْ يدعو بالرحمة لنا إذا نظرنا لأنفسنا، وقد تقرر في عقل كل عاقل وجوب النظر لنفسه ليدفع عنها المضار ويجلب إليها المنافع، وإنما إذا كان نظره


(١) سبقت في الحديث (٢٨).

(٢) في الأصل ونسخة أخرى: التوطيد، وهما بمعنى التهيئة والتثبيت والتمهيد.