[التواضع، ونبذة من سيرة سيد الخلق في التواضع]
  فكانت الخطبة عندهم من أفضل ما يتشرفون به. وذَرَفانُ العيون سيلانها بالدّموع. ووَجَلُ القلوب خوفها ورعبها، قال شاعرهم:
  لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَأَوْجَلُ ... عَلَى أَيِّنا تَعْدُو الْمَنِيَّةُ أَوَّلُ
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ خُطْبَتَهُ(١) ÷ كانت تبلغ الغاية القُصْوَى في ترقيق القلوب وتليينها، وامْتِلَاء الشُّؤون(٢) وتعيينها، لأنَّ وَعْظَهُ # يخرجُ من قلبٍ خاشع إلى آذان واعية، وقلوب حية.
  قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكَانَ مِمَّا ضَبَطتُ مِنْهَا، يريد الخطبة.
  الضبطُ هو الحفظ والذكر، وهو عندهم معروف، وأصله الإمساك.
  قوله #: أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ مَنْ تَوَاضَعَ عَنْ رِفْعَةٍ، وَزَهَدَ عَنْ غُنْيَة.
  الأفضل هو الأشرف والأعلى. والتواضعُ نقيض الترفع. والرفعة هو العلوّ والشرف. والزهد في الدنيا نقيض الرغبة فيها، وهو ترك حلالها تعبُّداً لله تعالى وعَزْفاً للنفس عن لذاتها. والغُنْيَةُ: هي الغِنى، وهي تُناقِض الحاجة في اللفظ كما أن الغنى يناقض الفقر، فأمَّا المعنى فهو واحدٌ في الجميع من الاثنين المتناقضين.
[التواضع، ونبذة من سيرة سيد الخلق في التواضع]
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن المتواضع عن الرفعة ينال بتواضعه على تلك الحال ما لا يعلم كُنْهَ ثوابه إلا الله تعالى؛ لأن ما يُعَدُّ من الرفيع تواضعاً قد يُعَدُّ من غيره مِثْلُه مَلَقاً وذِلَّةً، فلا تكون له تلك المزيَّة، وإنَّما كان كذلك لأنَّه قرَّب نفسَه إلى ضَعَفَةِ عباد الله، وسهَّل جانبه بتواضعه لطلاب الحاجات ممن لا جَاهَ له، وقد كانت رِفْعَتُه ضَرَبَتْ عليه سُرَادِق(٣) الهيبة، ففرج ذلك السُّرادِقَ بتواضعه، وقرَّبَ
(١) في النسخة (أ) وفي نسخة أخرى: خُطَبَهُ.
(٢) الشُّؤُونُ: مَجَاري الدَّمْعِ مِنَ الرّأْسِ إلى الْعَيْنَيْنِ، تمت حاشية في الأصل، (انظر القاموس المحيط ١٢٠٨) وتعيينها هنا هو بمعنى تسييلها واستمرار سيلانها، وهو مأخوذ من عيون الماء المعروفة، تمت.
(٣) السُّرادِق: كُلُّ مَا أَحَاطَ بشيءٍ مِنْ حَائِطٍ أَوْ مِضْرَبٍ أَوْ خِبَاءٍ، (لسان العرب ١٠/ ١٥٧).