حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الزهد]

صفحة 178 - الجزء 1

[الزهد]

  وأما الزُّهد فهو الغِنَى الأكبر، والكنزُ الأوفر، وهو شرعٌ؛ رسولُ الله ÷ إمامُه، وبيده زِمامُه، فأقربُ النَّاس منه أقْرَبُهُم شَبَهاً به # فيه، وهو الذي فسَّرْنا به قوله تعالى: {وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى}⁣[الأعراف: ٢٦] فجعلنا الريش ما يرتاش به الإنسان من أنواع الكِسْوة، وأصله مأخوذٌ من ريش الطائر، وجعلنا {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} الزُّهدَ في الدنيا، وقد فسَّره غيرنا بغير ذلك، وما اخترناه عندنا هو الأَوْلَى؛ إذْ لا يشارك أهلَ التقوى فيه مشاركٌ، وقد يشاركهم غيرهم في جميع أنواع الرياش.

  وقد روينا عن النبي ÷ من طريق علي بن أبي طالب # قال: أفْطَرَ رسول الله ÷ بقُباء يوم الجمعة، فأتاه أوْسٌ الأنصاري بقَعْبٍ فيه لَبَنٌ مَخِيضٌ بعَسَل، فلما وضعه على فيه نحَّاه، ثم قال: «شَرَابانِ يُجْزِي أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، لَا أَشْرَبُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَلَكِنِّي أَتَوَاضَعُ للهِ ø، فَإنَّهُ مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ اللهُ، وَمَنْ تَكَبَّرَ قَصَمَهُ اللهُ ... ، ومنه: وَمَنْ اقْتَصَرَ فِي مَعِيشَتِهِ؛ - وفي رواية أخرى: اقْتَصَدَ - رَزَقَهُ اللهُ، وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ أَحَبَّهُ اللهُ ø».

  وروينا عن أمير المؤمنين # في مثل ذلك قال: قال رسول الله ÷: «هَلْ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ اللهُ عِلْماً بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ؟ هَلْ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ اللهُ هُدًى بِغَيْرِ هِدَايَةٍ؟ هَلْ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْهِبَ اللهُ عَنْهُ الْعَمَى وَيَجْعَلَهُ بَصِيراً؟ أَلَا إنَّهُ مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيا وَقَصَّرَ فِيهَا أَمَلَهُ أَعْطَاهُ اللهُ عِلْماً بِغَيْرِ تَعَلُّم، وَهُدًى بِغَيْرِ هِدَايَةٍ، أَلَا وَإنَّهُ مَنْ رَغِبَ فِي الدُّنْيَا وَطَالَ فِيهَا أَمَلُهُ أَعْمَى اللهُ قَلْبَهُ عَلَى قَدْرِ رَغْبَتِهِ فِيهَا، أَلَا وَإنَّهُ سَيَكُونُ أَقْوَامٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمُ الْمُلْكُ إِلَّا بِالْقَتْلِ وَالتَّجَبُّرِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُمُ الْغِنَى إلَّا بِالْبُخْلِ وَالْفُجُورِ، وَلَا تَسْتَقِيمُ لَهُمُ الْمَحَبَّةُ فِي النَّاسِ إلَّا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، أَلَا فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ ذَلِكَ فَصَبَرَ عَلَى الذُّلِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْعِزِّ، وَصَبَرَ عَلَى الْفَقْرِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْغِنَى، وَصَبَرَ عَلَى الْبُغْضَةِ فِي النَّاسِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَبَّةِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللهِ تَعَالَى وَالدَّارَ الْآخِرَةَ أَثَابَهُ اللهُ ثَوَابَ خَمْسِينَ صِدِّيقاً».