حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الإنصاف]

صفحة 179 - الجزء 1

  وهذا كما ترى فضلٌ مبين، وربحٌ مستبين، لا ينكره إلا ظنين⁣(⁣١)، ولا يرغب عنه إلَّا مَهين، ولا يتحقق الزهد إلا مع القُدرة على الغنى، فرحِمَ الله امْرَأً قرض الدنيا قرضاً، ولم يدَّخر فيها عيناً ولا عَرْضاً⁣(⁣٢).

  قوله #: وَأَنْصَفَ عَنْ قُوَّةٍ، وَحَلُمَ عَنْ قُدْرَةٍ.

  الإنصاف: هو الانقياد للحقوق طوعاً، والتسليم لأمر الله: هو تمليكُ أمر الله تعالى الزمامَ مع القدرة على الامتناع. والقوة: هي الآلة والقدرة، وقد تُستعمل في الآلة. والقدرةُ هي المعنى الذي إذا حَلَّ الحيَّ أوجب كونه قادراً، هذا عند أهل الكلام، فأمَّا أهل اللغة فيُعبِّرُون بأحدهما عن الآخر لتقاربهما، وقد يجعلون القدرة الاستظهار والغَلَبَة. والحِلْمُ نقيض السَّفَهِ والخِفَّة، وهو صَبْرٌ مخصوصٌ يقع في مقابلَة سَفَهِ السفهاء وبَغْي الْبُطَرَاءِ، هذا إذا وَضَعَت الحربُ أوزارها وأخمدتْ نارها، فأمَّا عند كشفِها عن ساقِها، وإرعادِها وإبراقِها، وتصميمها وإطراقها، فالحِلْمُ في تلك الحال مذمومٌ، وفاعله موصومٌ⁣(⁣٣)، وقد كان رسول الله ÷ مِنْ أحلم الأولين والآخرين، والماضين والغابرين، فكان إذا شهر السيف لم يغمده وللكُفْرِ رَسْمٌ يُعْلَم، ولا نابٌ يَضْغَم⁣(⁣٤).

[الإنصاف]

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ الإنصاف حَسَنٌ من كُلِّ أحد، كبيراً كان أو صغيراً، ولا يختلف العقلاء في ذلك، وإنما تقع له المزِيَّة العظيمة إذا كان من قَوِيٍّ يَتَمَكَّنُ من الامتناع، وفي ذلك ما روينا: أنَّ يهوديّاً كان له على رسول الله ÷ دَيْنٌ، فجاء إليه يُطالبه قبل حُلُولِ أَجَلِه، فقال #: «يَا يَهُودِي؛ لَنَا بَقِيَّةُ يَوْمِنَا» فقال اليهودي: إنكم يا بني هاشم قومٌ مُطْلٌ،


(١) الظَّنِينُ الْمُتَّهَم، قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ٢٤}⁣[التكوير] هامش (أ).

وبما يتعلق بالقراءات هنا: من قرأ بالظاء: {بِضَنِينٍ ٢٤} أي مُتَّهم، وهم: أبو عَمْرو، والكسائي، وابن كثير، وقرأ الباقون وهم: نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، بالضاد: {بِضَنِينٍ ٢٤} أي بخيل.

(٢) الْعَيْنُ: أيْ الدِّينارُ والدِّرْهَمُ (النَّقْدُ)، والْعَرْضُ: كُلُّ مَا عَدَا النَّقْدَيْنِ، (انظر لسان العرب ٧/ ١٧٠).

(٣) مَوْصُومٌ: مَعِيبٌ، مِنَ الْوَصْمِ، وهو العَيْبُ أو الصَّدْعُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَه، (انظر اللسان ١٢/ ٦٣٩).

(٤) أيْ يَعُضُّ، قال في القاموس: الضَّيْغَمُ الَّذي يَعُضُّ، وهو منْ أسْماءَ الْأَسَد، (القاموس المحيط ١١٣٢).