تنزيه القرآن عن المطاعن،

القاضي عبدالجبار الهمذاني (المتوفى: 415 هـ)

[مسألة]

صفحة 128 - الجزء 1

[مسألة]

  وربما قيل في قوله تعالى {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} ان الكذب يكون قبيحا وأهل الآخرة ملجئون إلى أن لا يقع منهم القبيح.

  فالمراد بذلك {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي في الدنيا لأنهم كانوا يحسبون انهم بخلاف ذلك ثمّ قال {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} أي في دار الدنيا لأنهم أخبروا عن أنفسهم بنفي الشرك وهم كانوا مشركين في الحقيقة. فالكذب انما وقع منهم في الدنيا وأخبروا في الآخرة عن أحوالهم في الدنيا ومثل ذلك يكون فتنة في الآخرة عليهم لأنهم يخبرون بما ليس بعذر، فلا ينفعهم ذلك ولذلك قال تعالى بعده {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} يعني ذهب ذلك عنهم وظنوا خلافه.

[مسألة]

  وربما قيل في قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً} كيف يصح ذلك وقد أمرهم بهذا الاستماع، فكيف يمنعهم بالوقر والكن.

  وجوابنا ان ذلك تمثيل لا تحقيق من حيث لم يسمعوا ما أمروا فصاروا بمنزلة من في آذانه وقر ولم ينتفعوا بما فهموا فصاروا كمن في قلبه كن. وقد قيل إن المراد بذلك انهم كانوا يؤذون رسول اللّه إذا قرأ القرآن فحجبوا عن استماعه من حيث كان المعلوم انهم لا ينتفعون به ولذلك قال بعده {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها} وبين اللّه تعالى بعد إقامة الحجة ان الحجب مانعة عن معرفة كثير من الآيات إذا كان المعلوم ان يكذّب ولا ينتفع به ولذلك قال تعالى بعده {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا} وذمهم بذلك ولو كان المنع وقع منه لما صح أن يذمهم على منعهم منه.