[متن متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني]
  فأما قوله تعالى {قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} ...
  فليس يدل(١) على أنه أحب المعصية، لأن اعتصامه بالكون في السجن عما أريد منه من المعصية، طاعة منه، وإن كان فعلهم معصية، كما أن الظالم لو أكره غيره على ملازمة الحبس بالقتل، يحسن ملازمة الحبس افتداء من القتل وإن قبح ذلك من الحابس!
  هذا إن ثبت أن المراد ظاهر الكلام، فكيف وقد يجوز أن يكون يوسف # فزع إلى هذا القول كما يفزع المضروب إلى الاستغاثة. وأظهر بذلك شدة التمسك بالتفادى من المعصية، فقال: إن الحبس مع ما فيه من المشقة الشديدة آثر عندي مما دعيت إليه من المعصية! وهذا بين.
  ٣٥٥ - وقوله تعالى بعد ذلك: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ}(٢) يجب أن يحمل على أنه سأله ø أن يلطف له بضرب من اللطف ينصرف عنده عما أريد منه من المعصية، فلذلك قال تعالى من بعد: {فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ}[٣٤] ولو كان قد اضطره إلى ذلك لم يكن يمدحه عليه!
  وقد قال بعض شيوخنا رحمهم اللّه: إن هذه الآية من أقوى ما يدل على بطلان الجبر؛ لأنه تعالى بين أنه صرفه عن كيدهن بأن أراه الآيات، قال:
  وكيف يصح - وهو تعالى خلق فيه إرادة ذلك ومحبته، وعلى ما رووه: أقعده منها مقعد الطالب للفاحشة - فكيف يصح أن يفعل ذلك، ويوصف بأنه صرفه عن كيدهن، وأنه أراه الآيات لكي ينصرف عن ذلك؟ وهل هذا إلا وصف لنفسه بالمغالبة، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
(١) د: يدل بذلك.
(٢) من تتمة الآية السابقة ٣٣.