مجموع كتب الإمام الناصر أحمد بن الهادي،

الإمام الناصر أحمد بن يحيى (المتوفى: 325 هـ)

[مقدمة المؤلف]

صفحة 56 - الجزء 1

  لمفترِضه، ومبرئ لمنُزِّله عن ظلم عباده، وحَملِهم على المعاصي، بعد نهبه لهم عنها وتحريمها عليهم، والإهابة بهم إلى ضدها، والإخراج لهم من ظلمها إلى نجاتها ورشدها.

  فلم يُدخل أحداً من خلقه في ضلالة، ولم يكلفهم من أمره فوق الطاقة، ولم يحُل بينهم وبين الطاعة، ولم ينكب بهم عن طريق الصواب، ولم يُعمِهم عن ولوج صالح الأبواب، بل ابتدأهم بالرأفة والرحمة، ودلّهم على النجاة والسلامة والعصمة، فأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، لئلا يكون للخليقة عليه تبارك وتعالى بعد ذلك حجة، يدَّعي فيها مدّعٍ أنه أُتي في دينه من قبل ربّه، في تقديرٍ قدّره عليه، أو قضاءٍ ألزمه إياه، أو حتمٍ قصده به، أو صدٍّ عن هداية، أو خلق لفعله، أو جبر جبره فيه على ما نهاه عنه وخوّفه من إتيانه.

  يأبي ذلك على المجبرين المفترين، قولُ العزيز الرحيم، والعدل الحكيم: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ٦ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ٧ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ٨ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ٩ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ١٠ كِرَامًا كَاتِبِينَ ١١ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ١٢ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ١٣ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ١٤ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ١٥ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ١٦}⁣[الإنفطار].

  فاستمع إلى هذا القول، وإلى هذه الحكمة البالغة، والحجة القاطعة لعُذْر كل مجبر افترى على ربه، وألزمه ذنبه، كيف قال: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ٦}، فلو كان الغرور من قِبل ربه ø وتعالى، لم يُجْز في الحكمة ولا في العدل أن يقول له: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ}، وهو الذي غرّه وضرّه، وقدّر عليه شره، ثم قال: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ٩}، فلو كان تكذيبهم من قبله ø لم يعبْ عليهم فعله، ولم يعنْفهم على تقديره، فيخرج من الحكمة ويصير إلى صفة الجائرين.