المسألة الثالثة والعشرون في عقاب الفاسقين
  في رحمته ومغفرته إذا كان يفعل بالعبد كل ما يستحقه قطعاً ولا يعفو عن وزن حبّة خردلٍ إلَّا إذا سقطت بنفسها بتوبةٍ أو تكفير ثوابٍ؛ وحينئذٍ قد سقط حقه منها تعالى فتركه للعقاب عليها لا يكون عفواً ولا مسامحةً فتعين الثاني وهو أن يكون ذلك مع عدم سقوط العقاب بتوبةٍ أو ثوابٍ، وهو الذي نقوله ونذهب إليه، ويجب حينئذٍ حمل آيات الوعيد التي ذكرتم على آيات الوعد.
  الجواب والله الموفق: أنّا قد بيّنا بما مهّدناهُ من المقدّمات الأربع أنّ عمومات الوعيد أدِلَّةٌ قطعيّةٌ ظاهرةُ الدَّلالة، وعمومات الوعد مُجملةٌ غيرُ مبيَّنةٍ، ألَا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَآءُ}[النساء: ٤٨] فإنها مجملةٌ من جهة الغفران والمغفور له معاً، وكذا سائرها عند التّأمل، وإذا ثبت ذلك وجب الاعتماد على آيات الوعيد إذ لا يُترك القطعيُّ بما ليس بقطعيّ، وأيضاً فإن في عمومات الوعيد ما لم يمكن تأويلُهُ، ولا إخراجُهُ عن ظاهره بوجهٍ من الوجوه، وهو قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النساء: ١٢٣] نزلت الآيةُ خطاباً للمسلمين. قيل: سبب نزولها أنّ المسلمين، وأهل الكتاب افتخرُوا، فقال أهل الكتاب: نبيئُنا قبل نبيئِكم، وكتابُنا قبل كتابكم. وقال المسلمون: نحن أوْلَى منكم نبيئُنا خاتم النّبيئين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبلُ ويشهد عليها، فنزلت الآيةُ. وقال الحسن البصري: ليس الإيمانُ بالتّمنِّي، ولكن ما وَقَرَ في القلب وصدّقه العملُ إِنّ قوماً أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ المغفرة حتّى