المسألة الثالثة أن الله تعالى عالم
  ويكشف عن كل ما يريد وغيره من اللحم إذا قُلِّبَ لم يصدر منه شيءٌ من ذلك. ثم الرِّيقُ في الفم الذي لأجله يتهيّأ للآكل الأكل بحيث لو كثر ماءُ الفم أو نقص لتعذّر عليه ذلك وغيره، ثم انظر إلى الحكمة في جَعْلِ مقدّم الأسنان حِدَاداً مصطفّةً لكونها كذلك أجمل في الخلقة، وحِداداً لتقطع ما نهشته ثم يُلقيه إلى الدّواخل وهي عِرَاضٌ مسطّحة سُفلاً وعُلُوّاً كالرّحا لطحن ما يُلقى فيها، فإذا طحنته ألقته إلى الحلق فيزدرده ثم يصير إلى البطن، وازدرادُ ذلك إلى الحلق ثم إلى البطن بسهولةٍ، وإن كان الفم في بعض الأحوال سُفلاً والحلق عُلُوّاً، لكن تجذب ذلك القوّة التي دبّرها قادرُ الذات عالمُها، ولو رَامَ جِسْمٌ أن يعتمد على الطعام الذي في الفم ليلقيه إلى الحلق ثم إلى البطن لم يتهيّأ ذلك إلّا بعد مشقّةٍ شديدةٍ، وأَلَمِ الآكِلِ، ثم انظر إلى تشريح أَعضاءِ الإنسان ونفع كل عضوٍ النّفع الذي لا يقوم غيرُهُ مقامَهُ، ثم انظر إلى مفاصل العظام التي لو لم تكن، لتعذّر كثير من نفع الأعضاء، ثم انظر إلى تركيبها ملائمةً للطبع، فلو كان باطنُ الكفّ ذا شَعَرٍ لتنغّص الآكل ولم يَسْتَمْرِ ما يأكل، ثم انظر إلى مخرج الأذى من السّبيلينِ عند الحاجة، وكيف يخرج ذلك بسهولةٍ من غير جاذب ولا دافع، وفي غير حاجة الخروج محتبسٌ من غير أن يكون ثَمَّ حابسٌ، بل مخارجها على حالها، لم يحصل هناك ختمٌ ولا سدٌّ. فسبحان من رجعت العقول حسيرةً عن إدراك حكمته وتدبيره في أصغر مخلوقاته حجماً، ولو أُجيلت العقولُ في فهم يسير ذلك لَجُلِّدَ ما يكثُرُ من الكتب، والإشارةُ