هذا باب كنايات العدد
= والبصريون يحملون أكثر ذلك على الضرورة، ويقولون: إن الفاصل بين كم الخبرية وتمييزها إما أن يكون جملة تامة، وإما أن يكون ظرفا فقط، وإما أن يكون جارا ومجرورا فقط، وإما أن يكون ظرفا وجارا ومجرورا معا، فإن كان الفاصل جملة أو كان ظرفا وجارا ومجرورا معا فالفصل شاذ ويجب نصب التمييز، وإن كان الفاصل ظرفا فقط أو جارا ومجرورا فقط يترجح التمييز، وشذ مجيئه مجرورا والفاصل ظرف كما في البيت الأول من الأبيات التي أنشدناها في الاستدلال لمذهب الكوفيين كما شذ مجيئه مجرورا والفاصل جار ومجرور كما في البيتين الثاني والثالث، ومن الفصل بالجملة مع نصب التمييز قول القطامي:
كم نالني منهم فضلا على عدم ... إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل
ومن الفصل بالظرف والجار والمجرور معا مع نصب التمييز قول الشاعر:
تؤمّ سنانا وكم دونه ... من الأرض محدودبا غارها
فإن كان الفاصل فعلا متعديا لم يستوف ما يستحقه من المفاعيل لم يجز جره لما سبق ولم يجز نصبه لئلا يتوهم أنه مفعول لذلك الفعل الفاصل، بل يجب جره بمن - وهذا هو الموضع الذي أشرنا إليه فيما مضى من كلامنا (أول صفحة ٢٤٠) - وفي هذا الموضع تشترك كم الاستفهامية والخبرية في الحكم، فمثال الخبرية قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وقوله سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ} ومثال الاستفهامية قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ}.
ومن هذا الكلام يتضح لك أن لتمييز كم الاستفهامية حالتين إحداهما يجب فيها نصبه، والثانية يجب فيها جره بمن ظاهرة، وأن لتمييز كم الخبرية ثلاث حالات، إحداهن يتعين فيها جره إما بالإضافة كما هو رأي البصريين وإما بمن مضمرة وجوبا كما هو رأي الكوفيين، وذلك فيما إذا اتصل بها التمييز، وثانيتهن يكون فيها منصوبا إما وجوبا وإما راجحا، وذلك عند الفصل بين كم وبينه، والثالثة يكون فيها واجب الجر بمن ظاهرة.
الوجه الخامس: أن المتكلم بكم الخبرية لا يستدعي جوابا من مخاطبه لأنه مخبر، أما المتكلم بكم الاستفهامية فإنه يستدعي جوابا ممن يخاطبه لأنه مستخبر، ثم الأجود في جواب الاستفهامية أن يجيء على حسب موضعها هي من الإعراب، فيكون مرفوعا إن كان موضعها رفعا نحو أن يقال لك (كم مالك) فتقول (ثلاثون دينارا) ويكون الجواب منصوبا إن كان موضع كم نصبا نحو أن يقال لك (كم أنفقت) فتقول: (ثلاثين دينارا) =