العموم والخصوص
  واعلم أن تخصيصه بالعقل، إما ضرورة أو استدلالًا، فأما ضرورة: فقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الرعد: ١٦] فعموم لفظه يتناول كل شيء، فيتناول أفعال العباد وذاته تعالى لكونه شيئًا لا كالأشياء، مع أنه تعالى ليس خَالقًا له؛ لقضاء ضرورة العقل، واستحالة كون القديم سبحانه خالقًا لفعل غيره، أو مخلوقًا، وهذا: بناءً على ما هو الصحيح من أن المتكلم يدخل في عموم خطابه، وعلى أن الشيء يطلق على الله؛ لقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ}[الأنعام: ١٩] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[القصص: ٨٨]، وأمَّا استدلالًا فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...}[آل عمران: ٩٧] الآية، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ٥٦}[الذاريات: ٥٦] فإن لفظ الناس والإنس يتناول الإنسان حقيقة، والعقل قاض بإخراج الصبي والمجنون، لكن لا بالضرورة، بل بالاستدلال والنظر في الدليل الدال على امتناع تكليفهما، وَأمَّا تخصيص السنة بالكتاب، فذلك أيضًا جائز كقوله ÷: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُوْرًا»(١)؛ فإنه مخصوص بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ٤٣ ..} الآية [النساء: ٤٣].
  قُلْتُ: قد خالف في ذلك بعض الشافعية. وأما (المفهوم) الموافق فمثل قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الإسراء: ٢٣] فإن مفهومه هو ألا يؤذيهما بحبس ولا غيره، وهو مخصص لقوله ÷: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوْبَتَهُ» رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والترمذي، والبيهقي(٢)، من رواية عمرو بن الشريد، عن أبيه(٣)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ولذلك ذهب أصحابنا ونقل الرافعي، والبغوي، والنووي: أن الوالد لا يحبس في دين ولده، وَأمَّا بالقياس، فمثاله قوله ÷: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مَائَةٍ»(٤)، مع قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
(١) أصول الأحكام ١/ ٢٤ رقم (٦٧) وهو في المجموع الشريف ٧٥ والتجريد ١/ ٣٣، والأمالي ١/ ٦٢ رقم (٦٣)، والبخاري ٢/ ٥٨ رقم (٣٢٣)، ٤١٩، ومسلم ٣/ ١٠٨ رقم (٨١١)، والنسائي ٢/ ٢٠٤ رقم (٤٢٩).
(٢) أبو داود ٤/ ٤٥ رقم (٣٦٢٨)، والنسائي ٧/ ٣١٦ رقم (٤٦٨٩)، وابن ماجة ٢/ ٨١١ رقم (٢٤٢٧)، وابن حبان ١١/ ٤٨٦ رقم (٥٠٨٩)، والحاكم ٤/ ١٠٢ ووافقه الذهبي والترمذي لم أجده، والبيهقي ٦/ ٥١ رقم (١١٦).
(٣) ص ٢٠٣ (خ).
(٤) أصول الأحكام ٢/ ١٧٩ رقم (١٩٩٧)، والتجريد ٥/ ٩٥، والبخاري ٢/ ٩٥٩ رقم (٢٥٤٩)، ومسلم ٣/ ١٣٢٤ رقم (١٦٩٧) وغيرهم كثير.