تفسير الإمام الهادي يحيى بن الحسين (ع)،

الهادي يحيى بن الحسين (المتوفى: 298 هـ)

ومن سورة الإسراء

صفحة 292 - الجزء 1

  ربه، بما بَيَّن له في كل شيء من أثر صنعه، فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، وهو يعني بالتسبيح: تسبيح المسبحين، لسبب أثر الصنع من المعتبرين بذلك، فجاز ذلك إذ كان بسبب أثر الصنع في هذه الأشياء، وكان التسبيح فيها من المسبحين، المقرين بالله المعترفين، وما التسبيح إلا كقول الله ø: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ}⁣[النمل: ٤]، فليس الله يزين لأحد قبيحاً، ولكن لما كان سبب زينة الدنيا وما فيها من الله خلقاً وجعلاً، وكان منه الإملاء للفاسقين، والتأخير الذي به تزينت أعمالهم، جاز أن يقال: {زَيَّنَّا} ولم يزين لهم سبحانه قبيحاً من فعلهم.

  وكذلك قوله سبحانه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}⁣[الكهف: ٢٨]، فليس الله سبحانه يُغفل قلب أحد عن ذكره، ولا يصرفه عن معرفته، ولكن لما أن كان منه سبحانه ترك المعاجلة للمسيء على فعله، والتأخير له في أجله، جاز أن يقول: {أَغْفَلْنَا}، إذ كانت الغفلة هي الإعراض، والترك للحق والتوبة والإنابة. فجاز من قِبَل إملاء الله وتأخيره للمسيء المذنب أن يقول: {أَغْفَلْنَا} على مجاز الكلام.

  ومثل هذا كثير في القرآن، يعرفه ذو الفهم والبيان.

  ومما حكى الله ø عن ولد يعقوب #: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}⁣[يوسف: ٨٢]، فقالوا: القرية، والقرية فإنما هي البيوت والدور، وليس البيوت والدور تُسأل، وإنما أراد أهل القرية؛ لأنها من سبب الأهل، والأهل من سببها، فجاز ذلك في اللغة العربية.

  وكذلك قولهم: سل العير التي أقبلنا فيها، والعير فإنما هي الجمال المحملة، وليس الجمال تُسأل، ولا تجيب ولا تستشهد، وإنما أرادوا: أهل الجمال وأرباب الحمولة، فقالوا: سل العير، وإنما أرادوا أهلها.