حقيقة الكناية والتعريض والفرق بينهما
  فأما قوله تعالى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا}[الرعد: ١٧] وقوله إن هذا من باب الكناية وإنه تعالى كنى به عن العلم والضلال وقلوب البشر فبعيد والحكيم سبحانه لا يجوز أن يخاطب قوما بلغتهم فيعمي عليهم وأن يصطلح هو نفسه على ألفاظ لا يفهمون المراد بها وإنما يعلمها هو وحده ألا ترى أنه لا يجوز أن يحمل قوله تعالى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}[الملك: ٥] على أنه أراد أنا زينا رءوس البشر بالحواس الباطنة والظاهرة المجعولة فيها وجعلناها بالقوى الفكرية والخيالية المركبة في الدماغ راجمة وطاردة للشبه المضلة وإن من حمل كلام الحكيم سبحانه على ذلك فقد نسبه إلى الإلغاز والتعمية وذلك يقدح في حكمته تعالى والمراد بالآية المقدم ذكرها ظاهرها والمتكلف لحملها على غيرها سخيف العقل ويؤكد ذلك قوله تعالى {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}[الرعد: ١٧] أفترى الحكيم سبحانه يقول إن للذهب والفضة زبدا مثل الجهل والضلال ويبين ذلك قوله {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ١٧}[الرعد: ١٧] فضرب سبحانه الماء الذي يبقى في الأرض فينتفع به الناس والزبد الذي يعلو فوق الماء فيذهب جفاء مثلا للحق والباطل كما صرح به سبحانه فقال {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}[الرعد: ١٧] ولو كانت هذه الآية من باب الكنايات وقد كنى سبحانه بالأودية عن القلوب وبالماء الذي أنزله من السماء عن العلم وبالزبد عن الضلال لما جعل تعالى هذه الألفاظ أمثالا فإن الكناية خارجة عن باب المثل ولهذا لا تقول إن قوله تعالى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: ٤٣] من باب المثل ولهذا أفرد هذا الرجل في كتابه بابا آخر غير باب الكناية سماه باب المثل وجعلهما قسمين متغايرين في علم البيان والأمر في هذا