شرح نهج البلاغة،

ابن أبي الحديد (المتوفى: 656 هـ)

فصل في العباد والزهاد والعارفين وأحوالهم

صفحة 366 - الجزء 6

  وصار عزيزا ملكا لا سلطان عليه لنفسه ولا لغيره فاستراح من الذل والهوان ولم يبق لنفسه شيء تشتاق إليه بعد الموت فكان أقرب إلى السلامة والنجاة من العابد الغني الموسر.

  وأما العارف فإنه بالحال التي وصفناها ويستلزم مع وجودها أن يكون زاهدا لأنه لا يتصور العرفان مع تعلق النفس بملاذ الدنيا وشهواتها نعم قد يحصل بعض العرفان لبعض العلماء الفضلاء مع تعلقهم بشهوات الدنيا ولكنهم لا يكونون كاملين في أحوالهم وإنما تحصل الحالة الكاملة لمن رفض الدنيا وتخلى عنها وتستلزم الحالة المذكورة أيضا أن يكون عابدا عبادة ما وليس يشترط في حصول حال العرفان أن يكون على قدم عظيمة من العبادة بل الإكثار من العبادة حجاب كما قيل ولكن لا بد من القيام بالفرائض وشيء يسير من النوافل.

  واعلم أن العارف هو العارف بالله تعالى وصفاته وملائكته ورسله وكتبه وبالحكمة المودعة في نظام العالم لا سيما الأفلاك والكواكب وتركيب طبقات العناصر والأحكام وفي تركيب الأبدان الإنسانية.

  فمن حصل له ذلك فهو العارف وإن لم يحصل له ذلك فهو ناقص العرفان وإن انضم إلى ذلك استشعاره جلال الله تعالى وعظمته ورياضة النفس والمجاهدة والصبر والرضا والتوكل فقد ارتفع طبقة أخرى فإن حصل له بعد ذلك الحب والوجد فقد ارتفع طبقة أخرى فإن حصل له بعد ذلك الإعراض عن كل شيء سوى الله وأن يصير مسلوبا عن الموجودات كلها فلا يشعر إلا بنفسه وبالله تعالى فقد ارتفع طبقة أخرى وهي أرفع طبقات.