شرح نهج البلاغة،

ابن أبي الحديد (المتوفى: 656 هـ)

152 - ومن خطبة له #

صفحة 150 - الجزء 9

  فيدركها به وذلك لما قدمناه من أنه حي لذاته لا بمعنى فلا يحتاج إلى آلة وأداة ووصلة تكون كالواسطة بينه وبين المدركات.

  وعاشرها أنه الشاهد لا بمماسة وذلك لأن الشاهد منا هو الحاضر بجسمه عند المشهود ألا ترى أن من في الصين لا يكون شاهدا من في المغرب لأن الحضور الجسماني يفتقر إلى القرب والقرب من لوازم الجسمية فما ليس بجسم وهو عالم بكل شيء يكون شاهدا من غير قرب ولا مماسة ولا أين مطلوب.

  وحادي عشرها أنه البائن لا بتراخي مسافة بينونة المفارق عن المادة بينونة ليست أينية لأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر بالجهة فلا جرم كان البارئ تعالى مباينا عن العالم لا بمسافة بين الذاتين.

  وثاني عشرها أنه الظاهر لا برؤية والباطن لا بلطافة وذلك لأن الظاهر من الأجسام ما كان مرئيا بالبصر والباطن منها ما كان لطيفا جدا إما لصغره أو لشفافيته والبارئ تعالى ظاهر للبصائر لا للأبصار باطن أي غير مدرك بالحواس لأن ذاته لا تقبل المدركية إلا من حيث كان لطيف الحجم أو شفاف الجرم.

  وثالث عشرها أنه قال بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه هذا هو معنى قول المتكلمين والحكماء والفرق بينه وبين الموجودات كلها أنه واجب الوجود لذاته والأشياء كلها ممكنة الوجود بذواتها فكلها محتاجة إليه لأنها لا وجود لها إلا به وهذا هو معنى خضوعها له ورجوعها إليه وهو سبحانه غني عن كل شيء ومؤثر في كل شيء إما بنفسه أو بأن يكون مؤثرا فيما هو مؤثر في ذلك الشيء كأفعالنا فإنه يؤثر فينا ونحن نؤثر فيها فإذا هو قاهر لكل شيء وقادر على كل شيء فهذه هي البينونة بينه وبين الأشياء كلها.