(فصل): [في الكلام في المناسبة]
  فإن قيل: إذا كانت المناسبة ثابتة بمجرد مناسبتها لحكمها عقلاً فالتعليل بها من جهة العقل لا من جهة الشرع.
  قلنا: هي وإن كانت كذلك لكن لكون اعتبارها شرعي حينئذ إذ هو بعد ورود النص على الحكم، فكان اعتبارها شرعياً لتفرعه على النص الوارد، والمناسبة هي (كالإسكار) فإنه علة مناسبة (للتحريم) لما فيه من دفع الضرر الحاصل من زوال العقل.
  قال الأسنوي: وفي التعريف نظر؛ لأن المناسب قد يكون ظاهراً منضبطاً، وقد لا يكون، بدليل صحة انقسامه إليها كما سيأتي إنشاء الله تعالى.
  وإنما كان هذا حد أئمتنا والمعتزلة؛ لأنهم يعللون أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح ويثبتون التحسين والتقبيح العقليين، وكما كان حداً لأئمتنا والمعتزلة، فقد حد به بعض الأشعرية أيضاً.
  (وعند الأشعرية) وهم الذين لا يعللون أفعال الله بالحكم والمصالح والأغراض الحكمية ولا يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، بل لا يفعل الله ما يفعله لغرضٍ أصلاً أن المناسبة (الملائمة لأفعال العقلاء عادة) كما يقال هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة إذا جمعتا في سلك واحد، بل معنى أنهما غير متنافرتين، وفي هذا التعريف نظر أيضاً؛ لأنهم نصوا على أن القتل العمد العدوان مناسب لمشروعية القصاص، مع أن هذا الفعل الصادر عن الجاني لا يصدق عليه أنه وصف ملائم لأفعال العقلاء عادة، والخلاف بيننا وبينهم في أنَّه لا يجوز تعليل شيء من أفعاله بسيء وموضع معرفة إفساد ذلك علم الكلام.
  (وتسمى) المناسبة (تخريج المناط) لأنه إبداء مناط الحكم (فإن كانت) المناسبة الذي تحصل من ترتب الحكم عليها ظاهرة منضبطة اعتبرت علة، وإن كانت (خفية أو غير منضبطة اعتبر في العلية) وصف ظاهر منضبط هو (ملازمها) أي العلة المناسبة الذي يحصل المقصود من ترتيب الحكم عليها ملازمَة عقلية أو عرفية أو عاديَّة بمعنى أن تلك المناسبة توجد بوجود ملازمها الظاهر المنضبط فيجعل الملازم معرفاً للحكم (الذي هو مظنتها) وإنما لم تعتبر الخفيَّة وغير المنضبطة (لأن الخفية وغير المنضبطة لا يعرفان الحكم؛ إذ هما) أي الخفية وغير المنضبطة (غيب) بالغين المعجمة (فلا يعرفان الغيب) وهو الحكم الخفي الغائب عنا، فيجب اعتبار الملائم.