الباب الثالث عشر من أبواب الكتاب: باب القياس
  وأنت تعرف أن ذكر قوله: لا يعرفان الحكم فلا يعرفان الغيب إنما هو على اصطلاح الأشاعرة من أن العلة معرفة لا باعثة، فكان الصواب في العبارة أن يقال: لأن الخفية وغير المنضبطة لا يبعثان على الحكم؛ إذ هما غيب فلا يبعثان على الغيب.
  (فالخفية: كالعمدية المناسبة للقصاص) أي لمشروعيته، وإنما كانت العمدية خفية (إذ هي قصد القلب وهو) أي القصد (أمر نفسي لا يدرك) شيء منه (فاعتبر) في العلية (ملازمها وهو الفعل المخصوص المقضي عليه عرفاً بأنه عمد كاستعمال الجارح في المقتل؛ لأنه) أي الفعل المخصوص (مظنتها) أي العمدية.
  (وغير المنضبطة: كالمشقة المناسبة للقصر) أي لترتيب الترخيص عليها تحصيلاً لمقصود التخفيف، ولا يمكن اعتبارها بنفسها؛ إذ هي غير منضبطة؛ لأنها ذات مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان، ولا يناط الترخيص بالكل ولا يمتاز البعض بنفسه، (فاعتبر ملازمها وهو السفر؛ لأنه مظنتها).
  (و) اختلف في (المناسبة) هل هي (معتبرة) أو لا؟.
  والصحيح أنها معتبرة (عند أئمتنا والجمهور) من العلماء (خلافاً للمريسي) بشر (وأبي زيد) الدبوسي (وأصحابه والمراوزة) أي المروزي وأصحابه فإنهم اقتصروا على المؤثر وهو ما طريقه النص أو الإجماع، قال الحفيد: وقال الدبوسي بالمناسبة من حيث لا يشعر، وذلك أنه اعتبر مناسبات وسماها مؤثرة.
  لنا: على أنها معتبرة عمل الصحابة فإنا نعلم ضرورة من تصرفاتهم في المسائل الاجتهادية أن معظمها كان جارياً على استنباط المعاني المناسبة، وأنهم مازالوا متطلعين إلى استخراجها ويقدمون نظراً على نظر لما يظهر لهم من قوة الإخالة ونتج من استحكام المناسبة، وأيضاً فالمناسبة متى كانت سالمة عن النقوض المبطلة لها فهي مفيدة ظن العلية والعمل على الظن واجب لما قدمنا بيانه، فالعمل على المناسبة واجب.
  بيان أنها مفيدة لظن العلية: أن تعليلنا لتحريم الخمر لشدتها أمر ظاهر لا يسع إنكاره، ويفارق تعليلنا لها بالحمرة القانية والرائحة الفائحة.
  احتج المخالف: بأن الإخالة يرجع حاصلها إلى الوقوع في النفس وقبول القلب وطمأنينة النفس إليه، وهذا أمر باطن لا يمكن إثباته على الخصم، فإنه إذا قال غلب على ظني هذا فللخصم أن يقول: لم يغلب على ظني، فحكم القلب إنما يجوز عند فقد الأدلة الظاهرة، وعند تصادم الأدلة وانحسام مسالكها فللضرورة الداعية إليه، ثُمَّ هو مقيدٌ في حق المجتهد ولا ينتصب حجَّة على الخصم بحال.