الباب الرابع عشر باب الاجتهاد والتقليد وصفه المفتي والمستفتي
  وأمَّا أن يقول: إن الأمارات وإن تناولت الفروع فالأدلة تقتضي وجوب العمل على تلك الأمارات، فذلك هو قولنا: ثُمَّ لا يخلو إمَّا أن يلزمه أن يجهد نفسه أو يحكم بأول خاطر، الثاني باطل، فيلزمه أن يستفرغ جهده ليغلب على ظنه أن الأمارة أقوى من غيرها فيعمل عليها، (فإن قصر) في استفراغ الجهد (أثم اتفاقاً) بين العلماء؛ لأنه يكون مع تقصيره كمن يعتمد على الظن مع التمكن من العلم، وذلك لا يجوز إلا فيما دل عليه الدليل كمعرفة أوقات الصلاة، فإنَّا متعبدون فيها بأذان المؤذن العدل، وإعلامه بالوقت، وإن أمكن العلم بذلك.
  (و) المجتهد (لا يلزمه اجتهاد غيره الذي يستجيزه) أي يستجيز العمل به (لتعذر اجتهاده في تلك) الحادثة، إنما يستحب له ذلك، (خلافاً للمنصور) بالله (وأبي مضر) فزعما أنَّه يلزمَه اجتهاد غيره الذي يستجيزه عند التعذر، وذلك كالسجود على الأنف عند تعذر السجود على الجبهة، والمجتهد المتعذر سجوده على الجبهة لا يرى وجوب السجود على الأنف لكنه يعد ذلك مستوياً والآخر يرى وجوبه، وإنما لم يلزمه لأنه لم يقم له دليل الوجوب، ولا يلزمه العمل بظن الغير؛ لأنَّ الله لم يتعبده إلا بالعمل بظنه، أمَّا الاجتهاد الذي لا يستجيزه نحو أن يجد ماء قليلاً وقعت فيه نجاسَة لم تغيره ولم يجد سواه، ومذهبه أن القليل ينجس بذلك، فإنه يعدل إلى التيمم، ولا يلزمه استعمال الماء عملاً بقول القاسم ومالك وفاقاً؛ لأنه عنده يحسن، واستعمال النجس لا يجوز.
  (و) المجتهد (لا يلزمه العمل بالأحوط المخالف لاجتهاده) وذلك لأن الله لم يكلفه إلا باجتهاده، فلا وجه للزوم ذلك، بل قال القاضي عبد الله: لا يجوز في الاعتقاد والظن؛ لأن اعتقاد ذلك لا يأمن كونه جهلاً فيقبح، والظن لا يحسن إلا إذا صدر عن أمارة، ولا أمارة صحيحة لما خالف اجتهاده، وإنما الحيطة في الأفعال والتروك، تكون للقبيح إذا كان مذهبه أنه مكروه أو مباح أو مندوب، وفي الواجب إذا كان مذهبه أنه مباح أو مندوب أو مكروه، فالحيطة بالقبيح أن يتركه، والحيطة بالواجب أن يفعله من غير اعتقاد ولا ظن ولا حيطة في الحظر إذا كان مذهبه الوجوب أو العكس، وكذلك الندب والكراهة لا حيطة بأحدهما على الثاني. انتهى.
  وظاهر سياق كلام المصنف أنَّ في الجملة مخالفة لتعقيبه إياه بعد كلام المنصور بالله وأبي مضر، والظاهر أن المسالة وفاقية كما يشعر به سياق ابن الحاجب.