الباب الرابع عشر باب الاجتهاد والتقليد وصفه المفتي والمستفتي
  وأصحابنا يدفعون دليلهم: بأن الأمر الذي ذكروا إنما يكون دلالة لو علم أن المستفتي ظن أو اعتقد أن المفتي له دون غيره ثُمَّ سأله فحينئذ كانت الحجَّة كما ذكرت، وأمَّا والحال مجهولة فلعل المستفتي ظن فيمن رجع إليه أنه أكمل من غيره وأولى بالفتوى.
  قال القاضي عبد الله: فيما ذكر أصحابنا نظراً، والمعلوم أن في الصحابة من كانت الحال مشتهرة في زيادة فضله وورعه وعلمه، كأمير المؤمنين #، وأبي بكر وعمر وابن مسعود ونحوهم، ولم ينكر على من رجع إلى غيرهم.
  (وإن استووا) علماً وورعاً في ظنه (على بعد ذلك) لأن الأغلب أنه لا يكاد ينفك التفاوت في المكلفين، (لا) على (امتناعه) مع اختلافهم فيما أفتوا به فإنه لا يمتنع، وقوله (في الأصح) إشارة إلى ما يؤخذ من أحد احتمالين ذكرهما الرازي وهو المنع من الاستواء قياساً على استواء أمارتي الحل والحرمة.
  فإذا استووا (فالمختار وفاقاً للجمهور) من العلماء (أنه مخير) فيأخذ بأي قولٍ شاء في أي حادثة من غير حجرٍ؛ لأن المستفتي لا بد له من الرجوع إلى العلماء، وليس بعضهم حينئذ أولى من بعضٍ، فيكون مخيراً فله أن يقلد أولاً من شاء، وأن يقلد ثانياً غير من قلده أولاً، ولأنَّا نقطع بذلك في زمن الصحابة وغيره، فإن الناس مستفتون في كل عصرٍ للمفتين كيف ما اتفق من غير تفصيل ولا فرق، ولا يلتزمون سؤال مفتٍ بعينه وتكرر وشاع ولم ينكر فكان إجماعاً.
  (وقيل يأخذ) المستفتي (بالأوَّل) من قول المفتين، فمن أفتاه أولاً لزمه قوله في رخصه وعزائمه، والالتزام بعروته والكون تحت قبائه؛ لأنه لما ثبت استواؤهم وتعلقت المصلحة باتباع أيهم، وقد عهد إلى بعضهم مختاراً كان العدول عنه إلى غيره مع زيادة الاختصاص به لرجوعه إليه أولاً ترجيح لا لمرجح، وهو تحكم باطل؛ ولأنه يؤدي إلى التهور والإنسلاخ من الدين.
  (وقيل) يأخذ في كل حادثة (بالأخف) من أقوالهم؛ لأنه أوفق وقد قال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: ٧٨].
  وقيل: يأخذ بالأثقل من أقوالهم؛ لأنه أحوط.
  وقيل: يأخذ بالأخف من أقوالهم إذا كان ذلك (في حقوق الله تعالى) دون الأثقل لقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: ١٨٥]، (و) يأخذ في كل حادثة بالقول (الأثقل في حقوق العباد)؛ لأنه أحوط كما تقدم.