الباب الرابع عشر باب الاجتهاد والتقليد وصفه المفتي والمستفتي
  ولنا: خصوصاً على امتناعه في العقليات أن الأمة أجمعت على معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد، لأوجه ثلاثة: أحدها: أنه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم.
  ثانيها: أنه لو أفاد العلم لأفاده بنحو حدوث العالم من المسائل المختلف فيها، فإذا قلد زيد في الحدوث وعمرو في القدم كانا عالمين بهما، والعلم يستدعي المطابقة فيلزم حقية القدم والحدوث، وأنه محال.
  ثالثها: أن التقليد لو حصل به العلم، فالعلم بأنه صادق فيما أخبر به، إمَّا أن يكون نظرياً أو ضرورياً:
  الثاني: لا سبيل إليه بالضرورة، وإذا تعين الأول فلا بد له من دليل، والمفروض أنه لا دليل؛ إذ لو علم صدقه بدليل لم يبق تقليداً.
  وأيضاً: فتحصيل العلم في أصول الدين واجب على الرسول لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}[محمد: ١٩]، وعلينا بقوله: {فَاتَّبِعُوهُ}[الأنعام: ١٥٣]، وفي هذا الوجه نظر(١).
  احتج المجيزون له مطلقاً: بأنه لو كان النظر واجباً لألزم الصحابةُ العوامَّ ذلك ولم يلزموهم، فإنا نعلم أن أكثر عوام العرب لم يكونوا عالمين بالأدلة الكلامية، وأن الأعرابي الجلف والأمة الخرساء نحكم بإسلامهم بمجرد الكلمتين.
  قلنا: لا نسلم أنهم لم يلزموهم فإنهم ألزموهم، وليس المراد تحرير الأدلة بالعبارات المصطلح عليها ودفع الشكوك الواردة فيها، إنما المراد الدليل الجملي بحيث يوجب الطمأنينة، ويحصل بأيسر نظر، وكان الصحابة يعلمون من العوام العلم بالدليل الجملي، كما أجاب الأعرابي الأصمعي عن سؤاله: بمَ عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا يدلان على اللطيف الخبير.
  قالوا: كما جاز في الفرعية يجوز في غيرها.
  قلنا: الجواب بإبداء الفارق، فإن الفرعية غير متناهية ويعسر على القاضي الوقوف عليها، بخلاف المسائل الأصولية فإنه لا عسر فيها لقلتها.
  وأما من قال: مقلد الحق ناج، قيل: فبطلان قوله: بأنه لا يحصل العلم بالمحق إلا بعد معرفة الحق، ولا يعرف الحق إلا بالنظر فيمتنع التقليد حينئذ.
(١) وجه النظر: أن لقائل أن يقول: الدليل خاص بالتوحيد، والدعوى عامة، وأيضاً فيجوز أن يكون من خصائصه ÷، تمت. من هامش النسخة (أ).