(فصل): في ذكر هل العقل يحسن ويقبح أو لا؟
  وأيضاً فنحن نعلم ضرورة حسن التنفس في الهواء، والمشي في مناكب الأرض، والاستظلال تحت الأشجار، وتناول الثمار من الأشجار النابتة، وغير ذلك من الأمور التي لا ضرر في تناولها واستعمالها، ومن رام من العقلاء منع نفسه عن هذه الأمور كلها فإن العقلاء ينسبونه إلى قلة العقل والخلاعة.
  احتج المخالف: بأنه تصرف في ملك الغير فيحرم.
  قلنا: ذلك فيمن يلحقه ضرر ما بالتصرف في ملكه، فلذلك لا يقبح النظر في مرأة الغير، والاستظلال بجداره، والاصطلاء بناره، والمالك فيما نحن فيه منزه عن الضرر.
  ولو سلم، فإنما ذكرتم من كونه تصرفاً في ملك الغير وإن دل على الحرمة مطلقاً، لكن كونه دفعاً للضرر الناجز يقتضي وجوبه فضلاً عن الإباحة فتنتفي الحرمة، وليس تحمل الضرر الناجز لدفع ضرر خوف العقاب المرتب على التصرف في ملك الغير، أولى من تحمل ضرر الخوف لدفع الضرر الناجز.
  فإن رُجِّحَ ضرر الخوف بكونه أشد، رُجِّحَ الآخر بكونه ناجزاً مقطوعاً به عند العقل.
  وذكر أصحابنا أنَّ الواقف إنما وقف لتعارض الأدلة.
  وأجاب المهدي: بأنه لا تعارض مع ظهور رجحان دليل الإباحة بما ذكره.
  وقد قيل: يمكن أن الواقف أراد أن الفعل الذي لا يدرك العقل فيه بخصوصه جهة حسنٍ أو قبح يحكم العقل بأن في ذلك الفعل نفسه حكماً من الشارع بالحظر أو الإباحة، حتَّى أن بعض أفراده مباح وبعضها محظور، لكن في أي معين فرضت لا أدري أن الحكم الحظر أو الإباحة، وهذا ليس بتوقف في الحكم لتعارض الأدلة، بل لعدم الدليلين على التعيين.
(فصل): في ذكر هل العقل يحسن ويقبح أو لا؟
  (و) لكن لا بد من تحرير محل النزاع ليتوارد الإثبات والنفي على محلٍ واحد، فنقول:
  (اتفق على ثبوت حسن الشيء وقبحه عقلاً باعتبارات):
  (الأول: بمعنى ملاءمته للطبع كالملاذ) التي يتلذذ بها من المآكل والمشارب والمناكح ونحوها من المشتهيات، فإن جميع العقلاء لا يختلفون في استقلال العقل بمعرفة حسن ما هذا حاله.
  (و) بمعنى منافرته له أي للطبع (كالآلام) التي يتألم بها العاقل، من المرض والجوع ونحوها، فإن العقل يستقل بمعرفة قبح ما هذا حاله بهذا المعنى عند جميع العقلاء، وذلك لأن الملائمة للطبع والمنافرة له ذاتية للشيء والعقل يستقل بمعرفة ماهو من ذات الشيء اتفاقاً.