الباب الخامس عشر من أبواب الكتاب باب الحظر والاباحة
  الدليل على ذلك: أنا متى علمناه واقعاً على أحد الوجوه المذكورة من كونه نفعاً أو دفع ضرر علمنا حسنه، وإن جهلنا ما جهلنا من النهي والعادة والملك والربوبية وغيرها مما يمكن أن يدعى علة في القبح، ومتى لا نعلمه واقعاً على شيء من تلك الوجوه فلا نعلم حسنه أو قبحه، وإن علمنا ما علمنا من تلك الأمور التي يدعى أنها علة في الحكم، فلما دار الحكم وهو الحسن أو القبح على هذه الوجوه نفياً وإثباتاً علمنا أنها هي العلل الموجبَة للحسن أو القبح، إلا أن من هذه الأشياء ما هو ضروري، ومنها ما هو نظري كما ستقف عليه في كلام المصنف إن شاء الله تعالى.
  ومن الأدلَّة على ذلك من السمع: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}[الروم: ٨]، ففي الآية الكريمة دلالة على أن الفكرة العقلية الصحيحة تثمر المعرفة بحكمة الله تعالى، ومن ذلك ما كان من موسى والخضر حيث استقبح موسى منه أموراً جلية الفساد في الظاهر، كل ذلك باعتبار ما عنده من الأمر المذكور في العقول في الأشياء الجلية الفطريَّة، وليس من الاستنكار بالشرع، كيف وقد أرشده الرب ø إلى عبد عنده من علمه مالم يكن عند موسى، وأجاب الخضر عليه بالمعنى المقتضي للحسن في العقول دون أن يقول أمرني من أرشدك، فلما كان عند موسى # أن الشرع مراعٍ لأحكام التحسين استنكر لأنه فطري، وكذا لما كان عند الخضر كذلك أجاب بما يلائم التحسين العقلي، وهذه حجة من ذي حجة؛ لأن في اللوم معنى النقص والذم.
  قال السيد عز الدين محمد بن عز الدين: ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٩٠}[النحل: ٩٠]، فكونه عدلاً وإحساناً قبل الأمر، وكونه فحشاً ومنكراً وبغياً قبل النهي، لترتب الأمر والنهي عليهما.
  ومن ذلك: أن الأنبياء ناظروا قومهم بالدلائل العقلية، وحصول تلك المعارف لا تتوقف على قول الرسول، بل لو تفكروا في ذلك علموا بعقولهم ذلك، ولهذا حثهم الله على التفكر بقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} وغير ذلك.
  وقول المصنف: (في الأصح) إشارة: إلى قول الإخشيدية: أن القبيح إنما قبح للإرادة المتعلقة به من جهة فاعله؛ لأن الفعل قد يكون طاعة وقد يكون معصية، كالسجدة فإنها تكون طاعة إذا قصد بها الرحمن، ومعصية إذا قصد بها الشيطان، ليس ذلك إلا للإرادة.