الدراري المضيئة الموصلة إلى الفصول اللؤلؤية،

صلاح بن أحمد المؤيدي (المتوفى: 1044 هـ)

الباب الخامس عشر من أبواب الكتاب باب الحظر والاباحة

صفحة 606 - الجزء 2

  (أو) يستقل العقل بقبحه لكن لا بالضرورة، بل (بالإستدلال: كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع) وإنما لم يستقل العقل بقبحه لما تقدم.

  ويزيده وضوحاً: أن العقل لا يهتدي بضرورته إلى حسن الأول؛ لأن فيه ضرراً، والضرر غير مستحسنٍ في العقول، ولا بقبح الثاني؛ لأن فيه نفعاً وهو مستحسن في العقول، لكنه يدرك ذلك بالنظر والاستدلال، وأن الصدق حسن لذاته، والكذب قبيح لذاته فلا يغيرهما عما هما عليه مصاحبة الضر في الأول والنفع في الثاني، هذا ما لاح لي من تفسير قوله.

  وأمَّا المهدي في الغايات فصرح بأن مثل هذا مما لا يقضي العقل فيه بشيء لا بضرورته ولا بدلالته، قال: ومن ادعى هنا أنه يعلم قبحه بضرورة العقل أو دلالته فمكابرة ظاهرة فلا يلتفت إلى قوله.

  ومبنى قول المصنف هذا على أن العلة في حسن الصدق كونه صدقاً، وفي قبح الكذب كونه كذباً، وأمَّا على ما اختاره الإمام المهدي من أنَّ العلة في قبح الكذب الذي يعلم بضرورة العقل مركبة من إثباتٍ ونفي، وهي كونه كذباً لا نفع فيه ولا دفع ضرر، وكذا الصدق من أنَّ العلة في حسنه الذي يعلم بضرورة العقل مركبة من إثبات ونفي وهي كونه صدقاً لا ضرر فيه، فإنما يعلم قبح الكذب وحسن الصدق اللذين بهذه المثابة بالسمع، وهو إجماع الأمَّة على حسن الصدق وقبح الكذب، وعموم قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ١١٩}⁣[التوبة: ١١٩]، وما في معناها، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}⁣[النحل: ١٠٥]، وقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ١٠}⁣[الذاريات: ١٠]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ٢٨}⁣[غافر: ٢٨]، إلى غير ذلك، فعموم هذه يقضي بحسن الصدق على الإطلاق، وقبح الكذب كذلك، إلا ما خصَّه دلالة سمعية، كخبر سويد بن غفلة (ما رخص رسول الله ÷ في الكذب إلا في ثلاث: الرجل يحدث أهله، والرجل يقول في الجهاد، والرجل يصلح بين اثنين) أو كما قال، وكخبر نعيم بن مسعود في صرف قريش وتفريق جموعهم يوم الخندق، وكخبر الحجاج بن عُلاط يوم واذن رسول الله ÷ في إتيان مكَّة ليرفع مالاً له هنالك، وأنه لا يتم إلا بأن يقول، يعني ما هو كذب، وخبر محمد بن مسلمة حين أمره ÷ بقتل كعب بن الأشرف وذكر أنه لا يتم له إلا بأن يقول، وقول فتيان يوسف عن أمره {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ٧٠}⁣[يوسف: ٧٠]، وظاهر قول إبراهيم: {إِنِّي سَقِيمٌ ٨٩}⁣[الصافات: ٨٩]، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}⁣[الأنبياء: ٦٣]، وقوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ٢٦}⁣[مريم: ٢٧]، حكاية