فصل: في بيان وقوع المجاز وتقسيمه إلى المفرد والمركب، والداعي إلى العدول إليه
  قلنا: الأسماء التي يجوز إطلاقها على الله تعالى توقيفية، فلا يجوز إطلاقها إلا بإذنٍ من جهة الشرع، وإلا فهي باقية على المنع، سلمنا كونها اصطلاحية، لكن إطلاق هذا الاسم يوهم الخطأ؛ لأن المتجوز من فعلٍ ما لا ينبغي فعله، وعدم إيهام الخطأ شرط في جواز الإطلاق.
  (وحملوا المجازات الواردة على الحقيقة) يحتمل أن يكون الضمير في حملوا عائد إلى المنكرين له مطلقاً، أو إلى المنكرين له في الكتاب والسنة، أو إلى المنكرين له فيهما فقط.
  فالأولون قالوا: الأسد موضوع لكل شجاع من سبع وغيره، والحمار لكل بليد من بهيمة وغيرها ونحو ذلك.
  قلنا: قصد التجوز في ذلك معلوم، وأن استحقاق البليد للحمار ليس كاستحقاق البهيمة له، ولذا لم يسبق عند إطلاق الحمار إلا البهيمة.
  والآخرون قالوا: الإرادة في قوله تعالى {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}[الكهف: ٧٧]، خلقت في الجدار مع أنه استعارة؛ لأنه شبه إشرافه على السقوط بالإرادة المختصَّة بذوات الأنفس.
  وقالوا: إن المراد سؤال القرية في قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}[يوسف: ٨٢]، السؤال الحقيقي، وأن المعنى اسألها فإنها تجيبك مع أنَّه من مجاز الحذف؛ لأن المراد أهلها.
  قلنا: الإرادة في الجدار ليس مما جرى به العادة، ولا يقع إلا بالتحدي من النبي ÷، وجواب الجدرات غير واقع على وفق الاختيار في جميع الأوقات، بل إن وقع فإنما يقع بالتحدي أيضاً، والمجاز في القرآن كثير كهاتين الآيتين، وكقوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}[الاسراء: ٢٤]، فإنه استعارة بالكناية لأنه جعل الذل والتواضع بمنزلة طائر فأثبت له الجناح تخييلاً.
  وكقوله تعالى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}[مريم: ٤]، {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}[النساء: ٤٣]، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}[البقرة: ١٥]، فإن اشتعال الرأس شيباً استعارة لانتشار بياض الشيب في سواد الشاب، والغائط مجاز عن الفضلات الذي يقع في المطمئن من الأرض، واستهزاؤه بالمنافقين استعارة عما يفعل بهم من الأقوال الهوان والحقارة، ولا يفيد المخالف التمحل وإن أمكن في الصور المعدودة فإنه لا يمكن في مثل {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}[الاسراء: ٢٤]، ألا ترى أن أبا تمام لما أنشد قوله:
  لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي