فصل: في بيان وقوع المجاز وتقسيمه إلى المفرد والمركب، والداعي إلى العدول إليه
  قال بعض منكري المجاز: اسقني ماء الملام، فأمر إليه بجلم يقص له من جناح الذل، ولعمري إن من أنكر المجاز لم يطعم حلاوة الفصاحة.
  والظَّاهر أنَّ مراد المؤلف بقوله (وحملوه) أنهم حاولوا حمل المجازات، لا أنَّه قد وقع منهم حملها جميعاً على الحقائق؛ إذ لم ينقل عنهم إلاَّ في صور معدودة أو أنهم ألزمهم ذلك.
  وقال أبو الفتح (ابن جني(١)) مجاوزاً حد الوقوع: (و) المجاز (هو الأغلب في اللغة)، أمَّا في الفعل فنحو قولك: قام زيد وقعد عمرو؛ لأن الفعل يفيد المصدر فقولك: قام زيدٌ معناه: حصل منه القيام، أي هذا الجنس من الفعل يتناول جميع الأفراد، ومعلوم أنه لم يمكن منه جميع القيام؛ لأنه لا يجتمع لإنسان واحدٍ في وقتٍ واحد، ولا في مائة ألف سنة القيام كله الداخل تحت الوهم.
  قال الرازي: أقول: هذا ركنك لأنه ظنَّ أن المصدر لفظ دال على جميع أشخاص تلك الماهيَّة، وهو باطل، بل المصدر لفظ دال على الماهيَّة، أعني المقدر المشترك بين الواحد والكل والماهية، من حيث هي هي لا تستلزم الوحدة ولا الكثرة، وإذا كان كذلك كان الفعل المشتق منه لا دلالة فيه على الكليَّة، ولا على جميع الوحدة.
  وقال أيضاً: قولك: ضربت زيداً مجاز من جهة أخرى؛ لأنك ربما ضربت بعضه لا جميعه، ولذا إذا احتاط الإنسان قال: ضربت رأسه، وهذا أيضاً قد يكون مجازاً، وذلك أيضاً قد يكون مجازاً عند ضربه لجانب من جوانب رأسه فقط.
  (ويقع) المجاز (في) اللفظ (المفرد وفي المركب) ولذلك قال المصنف في حدَّه: اللفظ دون الكلَمة، فالمفرد هو (كالحمار) إذا قيل (للبليد، و) المركب، مثاله: قوله (شابت لمة الليل) على ما يقتضيه الترتيب، وفيه نظر لمنع كونه مثالاً للمركب، بل المجاز فيه في المفردات؛ لأن اللمة مجاز عن سواد آخر الليل، والشيب عن البياض الحادث فيه بطلوع الفجر، فالأولى في التمثيل كما صرح به سعد الدين في شرح العضد بقامت الحرب على ساق، فإنه كما قال استعارة تمثيلية مثلت حالة الحرب بحال من يقوم على ساقه ولا يقعد، ولا مجاز في شيء من مفرداته، وكذا قولهم للمتردد: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى.
(١) أبو الفتح: هو عثمان بن جني الموصلي، من أئمة النحو واللغة، ومن حذاق أهل الأدب، ولد بالموصل، وقرأ في العراق والموصل والشام، وتتلمذ على أبي علي الفارسي، وتصدر في مقامه بعد وفاته، من أشهر كتبه في النحو كتاب (الخصائص) توفي (٣٩٢) هـ.