فصل: في بيان سبب الوضع وبيان الواضع
  فإن كان ذلك التخصيص من الله سبحانه وتعالى كان كتخصيصه حدوث العالم بوقته، مع أن حدوثه قبل ذلك وبعده ممكن، فإن المخصص هاهنا إرادته من غير انضمام داعيه إليه كما حقق في موضعه، وإن كان من الناس كان كتخصيصهم الأعلام بالأشخاص؛ إذ المخصص الإرادة.
  وتأوله السكاكي أي صرفه عن ظاهره، وقال: هو محمول على ما عليه أئمة علمي الاشتقاق والتصريف من أن الواضع لا يهمل في وضعه رعاية ما بين اللفظ والمعنى من المناسبة، كالجهر والهمس، والشدَّة والرخاوة، والتوسط بينهما، قضاء لحق الحكمة.
  مثل ما نرى في الفصم بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير بينونة، والقصم بالقاف الذي هو شديد لكسر الشيء مع البينونة، ومنه ما يحكى في النوادر أن بعض أهل الاشتقاق كان يقول عند وفاة بعض أقاربه: فصمت ظهري وإن شئت قصمت ظهري، ولكنه بالقاف أفصح وأولى؛ لأنه أسبق وأنكى.
  ومثل ما في التلم بالميم للذي بين الجدار، والثلب بالثاء للتخلل في الغرض، وفي الزفير بالفاء لصوت الحمار والزئر بالهمز لصوت الأسد وما شاكل ذلك.
  وإن لهيئة تركيب الحروف أيضاً خواص كالفعلان والفعلاء بالتحريك كالنزوان والجيداء لما في مسماهما من الحركة، وكذا باب فعل بضم العين مثل شرف وكرم لأفعال الطبيعة اللازمة.
  (وإما) أن يكون المخصص (الوضع وهو الأصح) لفساد الأول، وإذا قد كان المخصص هو الوضع فالناس فيه مختلفون في تعيين الواضع، ولذلك قال:
  (واختلف في واضع اللغات من هو؟) هل الله، أو البشر، أو بعض من التوقيف وبعض من البشر، أو الجميع ممكن؟
  (فعند جمهور أئمتنا والبهشميَّة) أي أصحاب أبي هاشم من المعتزلة (واضعها البشر) سواء كان (واحداً أو جماعة)، قال الشريف |: بأن انصرفت داعيته أو دواعيهم إلى وضع هذه الألفَاظ بإزاء معانيها لقوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[ابراهيم: ٤]، أي بلغتهم، دل على سبق اللغات الإرسال، ولو كان بالتوقيف، ولا يتصور إلا بالإرسال لسبق الإرسال اللغات، فيلزم الدور.
  وقد أجيب: بأنه تعالى علمها آدم كما يأتي في دليل المرتضى #، وإذا كان آدم هو الذي علمها على لفظ المبني للمفعول لأقوم رسولٍ أن يدفع ما ذكرتم من الدور.