فصل: [في المحكوم به]
  وثانيهما: أشار إليه بقوله: (وفيما لا يدخل تحت القدرة) أي قدرة المكلف عادة (وإن أمكن تصوره) واقعاً.
  قال سعد الدين: سواء امتنع لا لنفس مفهومه بل للدليل كخلق الأجسام أم لم يمتنع لذلك، (كالطيران) إلى السماء، وحمل الجبل، فإنه لا يمتنع أن يتصور الشخص الطيران، ولكنه غير داخل في مقدوره، (فمنعه أئمتنا والمعتزلة والنجارية) من المجبرة (عقلاً وسمعاً، وهو أحد قولي الأشعري، وثانيها) أي قولي الأشعري (واختاره جمهور أصحابه) أي الأشعري (جوازه عقلاً، ووقوعه عند أكثرهم شرعاً) فأما أقلهم فإنه أجازه، ومنع وقوعه كالبيضاوي وغيره، لكن ذكر ذلك البيضاوي في الممتنع لذاته كإعدام القديم، واستدل على ذلك بتتبع التكاليف، وفقدُ ذلك فيها، وبقوله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: ٢٨٦]، قالوا: إنما ينفي الوقوع لا الإمكان.
  واعلم أنه لا محصول لشيء من هذا الخلاف؛ لأنهم متفقون على أن الله تعالى خالق لجميع الأفعال وأنه لا يوجد شيء إلا بقدرته، فلا بد أن يكون التكليف بالأفعال تكليفاً بما لا يطاق ولا ينجيهم قولهم: إن للمؤمن قدرة على الإيمان، وللكافر قدرة على الكفر؛ لأنه لا معنى لذلك إلاَّ أن الله تعالى أوجد الفعل عندها على ما يقولون.
  وأعجب من هذا فرقهم بين تكليف ما لا يعلم، وتكليف ما لا يطاق، فإن احتياج الفعل إلى القدرة أعظم من احتياجه إلى العلم.
  والدليل على امتناع التكليف بما لا يطاق عقلاً: أمَّا عند من وافقنا من المجبرة فهو أن التكليف بالممتنع لذاته هو الطلبُ، وهو استدعاء الحصول، وقد عرفت استحالة تصوره واقعاً، واستدعاء الحصول فرع تصور الوقوع، فإذا انتفى انتفى، وبه قالوا فيه وفي الثاني: إن الفعل والترك لا يصحان من الفاجر.
  وأما عند العدليَّة: فقول المصنف (وقبح ذلك معلوم ضرورة) فمن أنكره فهو سوفسطائي (شاهداً وغائباً) أي في حق الشاهد وهو المخلوق، والغائب وهو الله تعالى، فإنا نعلم قبح تكليف المقعد بالسير والإنسان بالطيران ضرورة عند كل غافل، وليس ذلك إلا لأنه تكليف ما لا يطاق، فكذا يمتنع في حق الله تعالى لحصول العلة الموجبة لقبحه.
  قال في شرح النجري: قال الحاكم: قبح تكليف ما لا يطاق على سبيل الجملة معلوم ضرورة، واشتباهه على بعض العقلاء في بعض الأحيان لعارض لا يمنع من ذلك، بل يستدل عليه بالرد إلى ما لا اشتباه فيه. انتهى.