فصل: في بيان الأمر إذا وقع بعد حظر عقلي أو سمعي
  المعنَى فلا حكم لوروده بعد الحظر ويبقى كل على أصله، وعبارة الغزالي صريحة في ذلك كما سنذكرها، (وإن كان) الحظر (عارضاً) أي لعلة وعلق صيغة إفعل بزوالها (فللإباحة).
  قال في المستصفي: قال قوم: لا أثر لتقدم الحظر أصلاً، وقال قوم: هو قرينَة تصرفه إلى الإباحة، والمختار أنه ينظر فإن كان الحظر السابق لعلة وعلق صيغة إفعل بزواله، كقوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: ٢]، فعرف الإستعمال يدل على أنَّه لرفع الذم فقط، حتَّى يرجع حكمه إلى ما قبله، وإن احتمل أن يكون رفع هذا الحظر بندبٍ وإيجاب، لكن الأغلب ما ذكرناه كقوله تعالى {فَانْتَشِرُوا}[الجمعة: ١٠]، و [قوله ÷] «كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادخروها»، أما إذا لم يكن الحظر عارضاً بعلة ولا صيغة إفعل علق بزاولها فيبقى موجب الصيغة على أصل التردد بين الندب والإيجاب، ويزيد هاهنا احتمال الإباحة، وتكون هذه قرينة نزوح هذا الاحتمال، وإن لم يعينه إذ لا يمكن دعوى عرف في هذه الصورة حتَّى يغلب العرف الوضع. انتهى.
  وأنت خبير بخفاء دلالة عبارة المصنف على ما ذكره الغزالي، (وعليه) أي على ما ذكره الغزالي من التفصيل (مجمل إطلاق الأولين) كما اختاره القاضي عبد الله.
  احتج الأولون: بأنَه لا أثر لتقدم الحظر العقلي، وكذا الشرعي؛ إذ كل واحد منها حظر يجب العمل بمقتضاه مالم يرد دليل شرعي بخلافه، وأيضاً قد ثبت أن التمني بعد الإيجاب باق على موضوعه، كذلك الأمر وما ثبت في أحد النقيضين ثبت في الآخر.
  قالوا: غلب في عرف الشرع بعد الحظر في الإباحة فتقدم على الوجوب الذي عليه اللغة، وذلك لأن الكلام في أوامر الشرع فعرفه هو المقدم، وإنما قلنا بأنه غلب في ذلك لأن الإباحة هي السابقة إلى الفهم في نحو ({وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة: ٢]،) {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}[الجمعة: ١٠]، «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها»، «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا».
  قلنا: قد ثبت أنه موضوع في اللغة والشرع للوجوب، وورده بعد الحصر لا يمنع أنه يقتضي الأغلبية، فلا يسبق منه حينئذ إلى الفهم الإباحة، فلا يغير ذلك موضوعه، كما ذكرتم فلا يحمل على غيره إلا لقرينة، وهي في الآيتين كون جلب المنفعة الدنيويّة غير واجبة شرعاً، إلا حيث فيها دفع ضرر، فاقتضى ذلك مصير الأمر للإباحة.