الباب الثاني من أبواب الكتاب: باب النهي
  لفظ النهي ولا فائدته، وإذا لم يفد النهي شيئاً من تلك الأحكام لم يفد ما يتعلق بها من صحة وفساد؛ لأن إفادته ما يتعلق بها فرع على إفادته إياها.
  وأيضاً لو اقتضى النهي الفساد بحقيقته لاقتضاه: إما بلفظه أو بفائدته.
  والأوَّل باطل؛ لأن لفظ النهي هو قول القائل لغيره: لا تفعل وليس في لفظ هذه الصيغة ذكر الصحة ولا الفساد ولا يفهم من فحواها ذلك؛ لأن ما يعلم بالفحوى هو مثل قوله تعالى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الاسراء: ٢٣]، فإنه يفهم من فحوى هذا الخطاب المنع من ضربهما وشتمهما.
  وأما أنه لا يجوز أن يقتضيه بفائدته: فلأن فائدة النهي هي كون المنهي عنه مكروهاً، فإن كان النهي صادراً عن حكيم اقتضى كون المنهي عنه قبيحاً ومحرماً ومعصية ومحظوراً، وهذه الألفاظ تترادف على معنى واحد، وإن لم يكن النهي صادراً عن حكيم لم يفهم منه إيجاب ترك المنهي عنه تبعاً للكراهة، وكون المنهي عنه مكروهاً وقبيحاً لا يقتضي فساده؛ لأن في الشريعة أشياء منهياً عنها وهي إذا حصلت وقعت موقع الصحيح في ثبوت أحكامها الشرعية كالذبح بسكين مغصوب، والوطئ في زمن الحيض، وعقد النكاح في الوقت المنصوص للصلاة، والبيع في وقت النداء، وغسل النجاسة بالماء المغصوب، وتلقي الركبان، وبيع حاضر لباد، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده، ومعلوم أن هذه الأشياء مكروهة قبيحة ويجب في بعضها الكفارة كالوطء في زمن الحيض عند كثير من العلماء، ومع ذلك فلها أحكام الصحة لا أحكام الفساد.
  فإن قيل: إن في الشريعة أشياء منهياً عنها وهي إذا حصلت اقتضى النهي فسادها، كالوضوء بماء مغصوب، وستر العورة للصلاة بثوب مغصوب وغير ذلك، فإن هذه الأشياء فاسدة لورود النهي عنها، فيجب فيما ذكرتموه من الأمثلة المتقدمة أن يكون إنما خرجت عن الفساد لقرينة وإلا وجب في هذه الأشياء أن لا تكون فاسدة مثلها.
  فالجواب: أنا لا نمنع من كون هذه الأشياء فاسدة على الإطلاق كما لا تمنعون من كون الأمثلة المتقدمة صحيحة على الإطلاق، فيرجع النزاع في وجه فسادها، فعندنا لقرائن اقترنت بها، لا لأن النهي يقتضي إجزاء المنهي عنه فيرد النقض بها، وإنما ينفى اقتضاؤه للفساد لا غير، وعندكم أن وجه فسادها مجرد وجود النهي، ولنا أن ننقض عليكم بالأمثلة المتقدمة لقولكم أنه يقتضي الفساد بظاهره، ونستدل بها على أنه لا يقتضي الفساد بفائدته كما تقدم.