فصل: [في مبادئ أصول الفقه]
  وقدَّم تعريف الأصل على تعريف الفقه، وإن كان الأولى تقديم تفسير المضاف إليه لتوقف معرفة المضاف من حيث هو على معرفة المضاف إليه.
  كما ذكر تعريف الأصل لغة واصطلاحاً ذكر تعريف الفقه كذلك، فقال:
  (والفقه لغة: العلم أو الظن) لأمر خفي، تقول: فقهت معنَى قولك: زيد من البلغاء، ولا تقولُ: [فقهت] معنى قولك إنه ابن عمرو، ولا معنى قولك السماء فوقنا، لما كان ذلك واضحاً لا يدخله لَبس، بخلاف قولك من البلغاء، فهو يفتقر إلى معرفة ماهيَّة البلاغَة وما قصد من معانيها، ولهذا قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه، لما رآه حاذقاً ماهراً.
  واعلم أنَّ صاحب شمس العلوم قصر الفقه على العلم فقال: الفقه: العلم بمعنى الشيء، يقال: فقهت معناه أي علمته فقهاً وفقهاناً، أيضاً حكاه الكسائي.
  وكذا صاحب القاموس قال: الفقه: الفهم ولم يقيده.
  ومثله ذكره ابن الأثير في غريب جامع الأصول في الحديث.
  وقوله: لأمر خفي؛ لأنه قد ثبت أن الفقه بعرف الشرع لا يستعمل إلا فيما يدخله بعض خفاء، ولهذا لا يكون العلم بوجوب الصلاة - وغيرها مما يعلم من ضرورة الدين - فقهاً، ومن حق العرفي أن يكون بينه وبين اللغوي شبه، فيجب إذا اعتبر الخفاء في أحدهما أن يعتبر الخفاء في الآخر، وإلا فإن العقل لم يساعده على دعواه كما قررناه.
  والمراد بالفقه في اللغة ما ذكر (ولو) كان (بغير خطاب)، قوله (في الأصح) إشارة إلى ضعفِ ما قال المهدي وغيره في حد الفقه في اللغة: هو فهم معنى الخطاب؛ لأنه يصح أن يقال: فقهت المسألة وإن لم يكن ثَمَّ متكلِّم ولا مخاطب، بأن يكون ناظراً في كتابٍ، ولذلك قال بعض المحققين: هذا تقييد للمطلق بما لا يتقيد.
  فإن احتج له بقوله تعالى {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}[هود: ٩١]، وقوله {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ٧٨}[النساء: ٧٨].
  قلنا: هذا يدل على أنَّ الفهم من الخطاب يسمى فقهاً لا على أنه لا يسمى فقهاً إلا ما كان كذلك، وقد قال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا}[الأعراف: ١٧٩]، وهذا لا يختص بالفهم من الخطاب، بل عدم الفهم مطلقاً من الأدلَّة العقلية والسَّمعية.