[أكثر الأحكام مظنون]
  وما ذكره المؤلف هو المختار عند أكثر علمائنا - أعني كونَ أكثر الأحكام مظنوناً - وخالفَهم في ذلك أكثر الأصوليين كالقاضي وأبي الحسين والرازي(١) وابن الحاجب(٢) والسبكي.
  قال القاضي عبد الله: وهذا القول الذي عليه الإصطلاح في زماننا، ولهذا يضاف العلم إلى ذلك فيقال: علم الفقه، وهذه كتب الفقه، ويراد بذلك الأحكام المعلومَة والمكتوبة في الكتب.
  وَوَجَّهَ هؤلاء قولهم بأن قالوا: الأحكام معلومَة قطعيَّة أبداً لا يدخل الظن في شيء منها.
  بيان ذلك: أن الأحكام الشرعية: إمَّا أن يعرض الكلام فيها في حق المجتهدين أو في حق العوام، فالمجتهد في اجتهاده يستند إلى مقدمتين قطعيتين نتيجتهما علم:
  إحداهما: أنَّ فرض الله تعالى على المجتهد بذلُ الوسع في تحصيل الحكم من أي طريق شرعية ظفر بها.
  الثانية: أنه قد ظفر بطريقةِ كذا، فحينئذٍ يقطع بأن ذلك هو الواجب عليه.
  وكذا العامي يستند إلى مقدمتين قطعيتين نتيجتهما علم:
  إحداهما: أن حكم الله تعالى عليه الرجوع إلى قول العالم.
  الثانية: أن هذا الذي أفتي به هو قول العالم، فحينئذٍ يقطع على ذلك الحكم ويجب عليه العمل به.
  واعترض عليهم القاضي عبد الله: - مع ما يلزمهم من إرادة ما لا يتبادر من التعريف: بأن وجوب العملِ وإن كان قطعياً بذلك الحكم فإثبات الحكم مظنون، إذا الطريق إليه الأمارة في المسائل الإجتهادية، وهذا الأمر يجده الإنسان من نفسه، فإنه يعلم أنه غير عالم بالحكم وإثباته.
  (و) أما أن (وجوب العمل به) أي المطلوب (معلوم) فهو حكم آخر يتعلق بأصول الفقه، فأحدهما غير الآخر، وإن كان وجوب العمل يترتب على ظنّ الحكم، فذلك لا يوجب كونهما
(١) هو: محمد بن عمر بن الحسن الرازي، أبو عبد اللّه، المعروف بابن الخطيب الرازي، فخر الدين، شافعي المذهب، أشعري العقيدة، ولد سنة (٥٤٤) هـ، متبحر في علم الكلام، كثير الجدل والمعارضات والتقلبات، من أشهر مصنفاته: المحصول في علم الأصول، والنهاية في علم الكلام، والتفسير الكبير، توفي (٦٠٦) هـ.
(٢) ابن الحاجب: هو أبو عمرو عثمان بن عمرو بن أبي بكر الكردي، فقيه مالكي المذهب، أشعري المعتقد، نحوي أصوليٌّ مشهور من كبار العلماء بالعربية، وأصول الفقه من أصل كردي، ولد في أسنا من صعيد مصر سنة (٥٧١) هـ، توفي بالإسكندرية سنة (٦٦٤) ه، وكان أبوه حاجباً فعرف به، من أشهر مؤلفاته في أصول الفقه مختصر المنتهى، وعليه شروح عديدة، والكافية في النحو، والشافية في الصرف وغيرها.