فصل: [في مبادئ أصول الفقه]
  سواء في الظن والعلم، ولا نزاع في أن من الأحكام معلوماً ومظنوناً، ولا في أنَّها معلومَةٌ كلها، بمعنَى أن وجوب العمل بها معلوم، وإنما النزاع في أن العلم المأخوذ في التعريف إذا كان بمعنَى الإعتقاد الجازم، هل يكفي في التعريف أو لا، فنحن قلنا: لا يكفي؛ لأن الفقه هو العلم بنفس الحكم لا بوجوب العمل به، وليست الأحكام أنفسُها معلومَةً كلَّها، والخصم زعم أنه يكفي بأن يراد العلمُ بالأحكام العلمُ بوجوب العمل بها، فورد عليه الإعتراض.
  وقد وُجِّهَ كون الأحكام معلومة بتوجيه يتم به تعريف الفقه بالعلم بدون ذكر الظن مع بقاء التعريف على ظاهره، لكن ذلك على رأي أن كل مجتهد مصيب وهو أن يقال: إن الشارع جعل ظن المجتهد مناطاً للأحكام وعلةً لها، كما جعل ألفاظ العقود علامَة عليها وأسباباً لثبوتها، فمتى تحقق ظنه بالوجدان علم قطعاً ثبوت ما نِيْط به إجماعاً، بل ضرورة من الدين، فقد أفضى به ظنه إلى العلم بالأحكام أنفسها، ووجب عليه العمل بمقتضى ظنه بذلك، ومعنى وجوب العمل بمقتضاه أنه يجب عليه اعتقاد وجوب الفعل وإيقاعه إن تعلَّق به وجوبٌ، واعتقاد ندبيَّته أو إباحته أو كراهته أو حرمته على حسب ما يتعلق به.
  وأمَّا على تقدير أن المصيب واحد فقال سعد الدين في شرح التنقيح ما لفظه: كأنه ثبت نص قطعي على أنَّ كل حكم غلب على ظن المجتهد فهو واجب العمل به، أو ثبت بالنظر إلى الدليل وإن لم يكن ثابتاً في علم الله تعالى، فيكون وجوبُ العمل أو ثبوتُه بالنظر إلى الدليل قطعياً.
  قال: لكن يلزم على الأول أن يكون الفقه عبارة عن العلم بوجوب العمل بالأحكام، وعلى الثاني أن يكون الثابت بالنظر إلى الدليل الظني وإن لم يعلم ثبوته في الواقع قطعياً، وأنت تعلم أن الثابت القطعي ما لا يحتمل عدم الثبوت في الواقع.
  وغاية ما أمكن في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين في شرح المنهاج: وهو أن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به قطعاً للدليل القاطع، وكل حكم يجب العمل به فهو حكم الله، وكل ما علم قطعاً أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعاً، فكل ما يجب العمل به معلوم قطعاً، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعاً، فالفقه علم قطعي، والظن وسيلة إليه.
  وجوابه: أنَّا لا نسلم أن كل حكم يجبُ العمل به قطعاً عُلمَ قطعاً أنَّه حكم الله، لِمَ لا نُجوِّزُ أن يجب العمل قطعاً بما يظن أنه حكم الله تعالى.