الباب التاسع من أبواب الكتاب باب الناسخ والمنسوخ
  (و) أمَّا حقيقة النسخ (اصطلاحاً: فهو بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق شرعي واجبة التراخي عن وقت إمكان العمل)، ومعناه: أن الخطاب الأول له غاية في علم الله تعالى، فانتهى عندها لذاته، ثُمَّ حصل بعده حكم آخر.
  فقوله: (بيان) كالجنس، وقوله: (انتهاء)، خرج به بيان المجمل، وقوله: (الحكم الشرعي) دخل فيه الأمر وغيره، ودخل أيضاً نسخ التلاوة دون الحكم؛ لأن في نسخها بياناً؛ لانتهاء تحريم قراءتها، وخرج به بيان انتهاء الحكم العقلي وهو البراءة الأصلية، فإن بيان انتهاء الحكم العقلي وهو البراءة الأصلية بابتداء شرعية العبادات ليس بنسخ؛ لأنه ليس بياناً لحكم شرعي أي لانتهائه؛ إذ الحكم الشرعي هو الصادر من الشارع، والبراءة الأصلية ليست كذلك، وقوله (بطريق شرعي) خرج به بيان انتهاء حكم شرعي بطريق عقلي كالموت والعقلي والعجز فلا يكون نسخاً، وقد عده الرازي نسخاً، ومثل له بسقوط الرجل، وإنما قال بطريق: ولم يقل بحكم؛ لأن النسخ قد يكون بغير بدل، ودخل في الطريق الفعل والتقرير والقول والمفهوم سواء كان من الله أو من رسوله، وقوله: (واجبَة التراخي) إلى آخره، خرج به البيان المتصل بالحكم سواء كان مستقلاً كقوله: لا تقتلوا أهل الذمة، عقيب قوله: اقتلوا المشركين، وغير مستقل كالمستثنى والشرط وغيرهما.
  قال الأسنوي: لما حد البيضاوي(١) بهذا الحد بعينه، وفي الحد نظر من وجوه:
  أحدها: أن المنسوخ قد لا يكون حكماً شرعياً، بل خبر.
  الثاني: أن هذا الحد منطبق على قول العدل نسخ حكم كذا مع أنه ليس بنسخ.
  الثالث: إذا اختلفت الأمة على قولين، فإن المكلف يتخير بينهما، ثُمَّ أجمعوا على أحدهما، فإنه يتعين الأخذ به، وحينئذ يصدق الحد على المذكور مع أن الإجماع لا ينسخ ولا ينتسخ.
  إذا عرفت هذا (فهو بيان لا رافع، عند أئمتنا والمعتزلة والجويني والرازي والاسفرائيني) ومعناه مما سبق.
  (وعكس الغزالي والباقلاني وغيرهما) كابن الحاجب ومقتفيه فقالوا: هو رفع لا بيان، ومعناه: أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل بحيث لولا طريان الناسخ لبقي إلا أنه زال لطريان الناسخ.
  قال في المحصول: والمثال الكاشف عن حقيقة هذه المسألة أن من قال ببقاء الأعراض قال الضد الباقي يبقى لولا طريان الطارئ، ثُمَّ إن الطارئ يكون مزيلاً لذلك، ومن قال: بأنها لا تبقى قال
(١) هو عبد الله بن عمر البيضاوي، تقدمت ترجمته.