(فصل): [في معنى النسخ]
  أمَّا الأول: فلأنه لفرض وقوعه لم يلزم منه محال لذاته، سواء اعتبرت المصالح أو لا، أمَّا إذا لم تعتبر فظاهر؛ لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، وأمَّا إذا اعتبرت فنقول: (لأن الشرائع) إنما شرعت (بحسب المصالح) للعباد، أمَّا الواجبات فلكونها إلطافاً مقربة لنا من فعل الطاعات العقلية فعلاً وتركاً، وأمَّا المندوبات فلكونها مسهلات للواجبات، وأمَّا المحرمات فلكونها مفاسد، ولا شك أن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح، وأمَّا المكروهات فلكونها مسهلات لتجنب المحرمات، (و) المصالح (هي تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة) إذ يجوز كون الشيء لطفاً في حال دون حال، وفي حق شخص دون شخص، وفي زمن دون زمن، وفي مكان دون مكان.
  وأمَّا الثاني: فلأن التوجه إلى بيت المقدس كان واجباً إجماعاً ونسخ بالتوجه إلى القبلة، وأيضاً كانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة، وقد نسخت بآيات المواريث، وأيضاً ثبات الواحد للعشرة كان واجباً، ونسخ بثبات الواحد للاثنين، وذلك كثير لا يحصى ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بالكتب المصنفة فيه، (خلافاً لشذوذ) لا شهرة لهم ولا اتباع، وقوله (مطلقاً) أي في القرآن وغيره مستدلين بأن الله إن نسخ الحكم فإمَّا لحكمة ظهرت لم تكن ظاهرة له من قبل أو لا، وكلاهما باطل، فالأول؛ لأنه هو البدا وإنه على الله محال، والثاني لأن ما لا يكون بحكمة فهو عبث، وهو أيضا على الله تعالى محال.
  قلنا: قد بينا أن الشرائع مصالح، فجاز اختلافها باختلاف الأحوال والأزمان كما مر تحقيقه، فلم يتجدد ظهور مصلحة لم تكن ظاهرة، بل تجددت مصلحة لم تكن موجودة فلا بداء ولا عبث.
  فإن قيل: كيف يتصور من المسلم إنكار النسخ وهو من ضروريات الدين، ضرورة ثبوت نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة بالأدلة القاطعة على حقيقة شريعتنا، ونسخ بعض أحكام شريعتنا بالأدلة القاطعة من شريعتنا.
  قلنا: هو لا ينكر عدم بقاء تلك الأحكام، وإنما ينازع في الارتفاع والانقطاع، فزعم أن حقيقة تلك الأحكام كانت مقيدة بظهور شريعتها، وكذا في أحكام شريعتنا، ويجري الحال في ذلك كالحال في نحو {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فكما أن قوله إلى الليل غير ناسخ لوجوب صوم النهار، بل هو غاية له كذلك الحكم فيا يعد ناسخاً فيرجع النزاع لفظياً، (وخلافاً للأصفهاني) أبي مسلم المقلب بالجاحظ كما قاله ابن التلمساني في شرح المعالم واسم أبيه، قيل: عمر، وقيل: بحر،