الباب التاسع من أبواب الكتاب باب الناسخ والمنسوخ
  قلنا: لا نسلم عموم اليسر والعسر والتخفيف، بل هي مطلقة، سلمنا فسياقها يدل على إرادة ذلك في المآل، واليسر وهو تكثير الثواب والتخفيف هو تخفيف الحسنات، سلمنا فإنه مجاز من باب تسمية الشيء باسم عاقبته مثل قوله:
  لدوا للموت وابنوا للخراب
  لأن عاقبة التكليف تخفيف الحساب وتكثير الثواب، سلمنا أنه للفور لا للمآل، ولا مجازاً باعتبار المآل فهو مخصوص لما ذكرناه في النسخ بالأثقل كما هو مخصوص بخروج أنواع التكاليف الشاقة وأنواع الابتلاء في الأموال والأبدان مما هو واقع بالاتفاق مما لا يعد ولا يحصى.
  واعلم: أن جواز نسخ الأشق بالأخف لا يصلح عكساً لجواز الأخف بالأشق كما ذلك معروف، اللهم إلا أنْ يراد بالعكس مجرد تقديم مؤخر وتأخير ما قدم، لا تخفيف بالعرفية الخاصة، أو يقصد التجوز للمناسبة، فلا غبار على ذلك.
  (و لا) يشترط (عدم التأبيد) للحكم المنسوخ، فيجوز نسخ الأمر المقيد بالتأبيد، مثل: صوموا غداً مما كان التأييد فيه قيداً في الفعل، فأمَّا إذا كان التأبيد قيداً للوجوب وبياناً لمدة بقاء الوجوب واستمراره، فإن كان نصاً مثل أن يقول: الصوم واجب مستمر أبداً لم يقبل خلافه، وإلا يكن نصاً بل ظاهراً مثل الصوم واجب في الأيام والأزمان جاز فيه ذلك، وحمل ظاهر التأبيد على المجاز كالتخصيص، (خلافاً لبعض الفقهاء) فقالوا: لا يجوز نسخه.
  لنا: أنه قد ثبت جواز تخصيص العام المؤكد بكل وأجمعين فيجوز نسخ ما قيد من الفعل بالتأبيد، لأنه بمثابة التأكيد، (كما يجوز نسخ المطلق) الذي لم يقيد بتأبيد، وقد عرفت أنه قابل للنسخ، وإذا جاز نسخ المطلق مع قوة النصوصية فيما تناوله، فهذا مع ظهوره واحتماله أن لا يتناول أولى بالجواز.
  قالوا: لفظ التأبيد يجري في تناوله لكل وقت من أوقات الإمكان مجرى الألفاظ يخصها فلا يجوز نسخ شيء منها.
  قلنا: إنها تجري مجراه في اقتضائه إيقاع الفعل لا امتناع دخول النسخ، وذلك لأن اللفظ إذا تناول أشياء صح إخراج بعض منها، وليس كذلك إذا تناول شيئاً واحداً على أن هذا وارد في كل نسخ؛ لأن لفظ المنسوخ لا بد أن يفيد الاستمرار لفظاً أو معناً.