الباب التاسع من أبواب الكتاب باب الناسخ والمنسوخ
  قلت: لأن وجوبَ الواجب الآخر نسخه ظاهر، وأردت اطلاعك على فائدة مدفونة، وأيضاً إنما ذكرنا ذلك تنبيهاً على فائدة قد يخطر بالبال خلافها، وذلك لأن قبح الإخلال في المسألة الأولى وقع فيه الخلاف كما تقدم هل عقلي أو شرعي أو نسخ أو غير نسخ، وهاهنا لا شبهة أن قبح الإحلال وجواز الإخلال حكمان شرعيان، لكونهما فرعين، لأمر شرعي الضيق فيكون نسخاً بلا إشكال، بخلاف الإخلال بالكفارات عند زيادة كفارة أخرى، فإنَّه زال لزوال حكم عقلي، وهو ارتفاع وجوبِ ارتفاع الكفارة الزائل، فلمّا ورد الشرع بوجوبها زال حكم العقل وزال قبح الإخلال تبعاً لذلك، فلذا لم يكن نسخاً، وهذا عند المانعين من النسخ في مسألة الكفارات.
  وقد يقال: إن هذه الصورة من باب النقصان لا الزيادة، فهي بعد، وهذا الموضع أخص.
  (و) منها النقل (من تعيين إلى تخيير) كلو كان الواجب في الكفارة إطعام ثم نقل إلى التخيير بين الثلاث (وهو نسخ خلافاً للإمام) يحيى، فزعم أنه ليس بنسخ.
  قال الشيخ الحفيد في الشرح في هذه المسألة: إن الحكم منسوخ بلا إشكال، والحال في النقل من التعيين إلى التخيير كالحال في زيادة كفارة على الكفارات؛ لأنه قد كان يتضيق عليه الإتيان بأحد تلك الكفارات قبل الزيادة، وورود التعبد بالرابعة وزوال التضيق بزيادة الرابعة، فلا فرق والله أعلم.
  (و) منها (بيان انتهاء مفهوم إنما) نحو إيجاب صرف الزكاة للأغنياء بعد قوله {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، (و) بيان مفهوم (الغاية) نحو: إيجاب إدخال صدر من الليل كما كان في أول الإسلام بعد قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، (و) بيان انتهاء مفهوم (الشرط) نحو إيجاب النفقة لغير ذوات الحمل من الزوجات بعد قوله {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}، ومَا هذا حاله هو نسخ.
  أما الأول: فلأنه قد وقع حكماً شرعياً ثبت بدليل الخطاب عند من يثبت المفهوم.
  وأما الثاني: فلأنه تعبد كون أوّل الليل طرفاً وغاية للصيام، كما يفيده لو قال: آخر الصيام وغايته الليل، لأن إلى موضوعة للغاية، وإيجاب الصوم إلى غيبوبة الشفق تخرج أوله من أن يكون طرفاً مع أن الخطاب يفيده، وأما لو قال صوموا النهار ثم جاء الخبر بإتمام الصيام إلى غيبوبة الشفق لم يكن ذلك نسخاً، لأن الخبر لم يثبت ما نفاه النص؛ لأن النص لم يتعرض لليل وإنما نفينا الصوم بالليل لأن الأصل أن لا صوم، فقامت الدلالة على صوم النهار ونفي الليل على حكم العقل.