فصل: [في اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول]
  (فأكثرهم: على أنه واقع) كإجماع التابعين على حرمة المتعة بعد اختلاف الصحابة فيها، وكإجماعهم على جواز متعة الحج بعد وقوع الخلاف فيها، فإن عمر كان ينهى، ثم صار إجماعاً، فهؤلاء جزموا بوقوعه (سواء شذ المخالف أو كثر، ثم اختلفوا) بعد القول بوقوعه:
  (فعند جمهور أئمتنا، وأبي علي، وأبي الحسين، وبعض الفقهاء،) كابن خيران، والقفال، وأبي الطيب(١) من الشافعية، وجمهور الحنفية، وبه قالت المعتزلة، وحكي عن الحارث المحاسني: (أنه) أي إجماع أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول (إجماع، فيحرم العمل بمخالفه) أي مخالف القول المجمع عليه أهل العصر الثاني من قولي أهل العصر الأول؛ لأن الأول قد بطل حكمه، (لانقراض قائله) بموته، إذ قد قدمنا أن موت أحد الطائفتين يصير الآخر إجماعاً.
  (وعند بعض أئمتنا) وهو الناصر (وبعض الفقهاء) من الشافعية والحنفية وهو قول أبي حنيفة، قال الأسنوي: وهو مذهب الشافعي، قال الوصابي: وهو مذهب عامة أصحابنا وهو مذهب الأشعري، (والمتكلمين: ليس) إجماع أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول (بإجماع، فيجوز العمل بمخالفه) لعدم الإجماع، (إذ) عندهم أن قول العالم (لا يموت بموت قائله) وسيأتي تقرير هذا إن شاء الله تعالى في باب الاجتهاد، وهو الذي نختاره.
  قال في الحواشي: وهو القوي وإلا لزم امتناع تقليد الموتى حيث لا حي يقول بقولهم، إذ يلزم موت قولهم بموتهم، واختار هذا السيد الإمام محمد بن إبراهيم لا لما ذكر، بل لأن من مضى ظاهر الدخول في الأمة بخلاف من سيوجد؛ لأنه لا يعلم هل يوجد أو لا؟، وإذا كان موجوداً لم يعلم هل يكون عالماً أو لا؟، وإذا كان عالماً لم يعلم هل مخالف أو لا؟، ولأن اعتبار من سيوجد يؤدي إلى بطلان اعتبار الإجماع، فلا يمكن اعتبار فلا يستوي اعتبار ما يمكن، كمن مضى؛ واعتبار ما لا يمكن كمن يجوز أنه سيأتي.
  (وقيل: إن كان المتفقون هم المختلفون فإجماع تحرم مخالفته، وإلا) يكن المتفقون هم المختلفين (فلا) يكون إجماعاً.
(١) أبو الطيب: طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري، الشافعي، القاضي الفقيه الأصوليالأديب، كان جليل القدر مشهوراً عند الشافعية، معظماً فيهم، توفي سنة (٤٥٠) هـ ببغداد، عمره مائة وسنتان، ألف في الفقه والأصول، فمن مؤلفاته: شرح مختصر المزني وغيره.