فصل: [في عصمة الأنبياء]
  لنا: أما على امتناع الكبائر: فلأن الإقدام عليها ينفر الناس عن القبول بعلمنا، فإنه لو تعاطا رجل فعل المحرمات وارتكاب الكبائر، ثم أخذ ينهى الناس عن ذلك ويعظهم، ويأمرهم باتباعه والاقتداء به، فإن النفوس تنفر عن الانقياد له، ولا ينفع وعظه ذلك الموقع الذي يكون ممن هو على خلاف صفته.
  فإن قيل: موجب التنفير هو علمنا بارتكابهم الكبيرة، فمثلاً جازت عليهم من حيث لا يطلع عليها أحد من الناس.
  قلنا: هذا التجويز نفسه موجب للتنفير عنهم، ومسقط لمرتبتهم، فيكون ممتنعاً.
  وأما على جواز الصغائر: فلأن المعصية إذا لم تؤثر في الشك، فيما يؤديه النبي صلى الله عليه أو التنفير عن القبول منه، فلا مانع من جوازها عليه، إذ لم يقم دليل على امتناع شيء من المعاصي غير هذين النوعين، وقد منعناهما كما تقدم، فبقي ما سواهما داخلاً في حيِّز الجواز، لعدم الدليل المانع.
  وأيضاً: فقد قال تعالى مخاطباً لنبينا {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح: ٢]، وهذا تصريح بوقوع الذنب منه ÷، وكذا قوله تعالى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ١٢١}[طه: ١٢١]، وكذا قول يونس {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ٨٧}[الأنبياء: ٨٧]، وغير ذلك.
  احتج الأولون: بأن الأنبياء عند الله مكرمون، وبأن العصمة خلق القدرة الموجبة للطاعة.
  قلنا: صدور الصغير لا ينافي الكرامة إذ لا يوجب دخولهم النار، والثاني ممنوع، لأنها لو كانت خلق القدرة لما كان العبد يسألها إذ قد فعلت له، فكيف يطلبها، سلمنا حسن سؤالها فمبني على أصل فاسد، وهو أن الأفعال كلها من الله.
  احتج الآخرون: بما يكذبونه من أن داود # عشق امرأة أوريا بن حيان وقدمه في الجهاد ليقتل، وأن يوسف هم بالزنا بامرأة العزيز، وأن ذا النون غاضب ربه وظن أن لن يقدر عليه، وأن لوطاً عرض ببناته للفاحشة بقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي}[هود: ٧٨]، وأن إبراهيم كذب في قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ ٨٩}[الصافات: ٨٩]، وفي قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}[الأنبياء: ٦٣]، وأشباه ذلك من أقاويلهم الفاسدة.
  قلنا: هذه الأقوال مؤلفة باطلة:
  أما ما نسبوه إلى داود: فقد قيل إنما سأل الرجل أن يفارق امرأته، وكانت العادة جارية بذلك، وأن أهل ذلك العصر يواسي بعضهم بعضاً كما كان يفعل المهاجرون في صدر الإسلام، وقيل: