الباب الثاني عشر من أبواب الكتاب: باب الأخبار
  واستدل الجاحظ: بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}[سبأ: ٨]، لأن الكفار حصروا أخبار النبي ÷ بالحشر والنشر في الافتراء والإخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو، ولا شك أن المراد بالإخبار حال الجنة غير الكذب؛ لأنه قسيمه، وقسيم الشيء يجب أن يكون غيره وغير الصدق؛ لأنهم اعتقدوا عدمه، فعند إظهار تكذيبه لا يريدون بكلامه الصدق الذي هو بمراحل عن اعتقادهم، وأيضاً لا دلالة لقوله: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}، على معنى أم صدق بوجه من الوجوه، فلا يجوز أن يعبر به عنه، فمرادهم بكون كلامه خبراً حال الجنة غير الصدق، وغير الكذب، وهم عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة، فيجب أن يكون من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب ليكون هذا منه بزعمهم، وإن كان صادقاً في نفس الأمر.
  وأجيب: بأن معنى {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} أم لم يفتر، فعبر عن عدم الافتراء بالجنة؛ لأن المجنون يلزمه أن يكون لا افتراء له، فيكون هذا حصر للخبر الكاذب في نوعية، وهما الكذب مع العمد، بل لما هو أخص منه، أعني الافتراء، فيكون هذا حصراً للخبر الكاذب في نوعيه، وهما الكذب مع العمد وعدمه، ولو سلم أن الافتراء بمعنى الكذب فالمعنى قصد الافتراء أي الكذب، أم لم يقصد بل كذب بلا قصد لما به من الجنة.
  فإن قيل: الافتراء هو الكذب مطلقاً والتقييد خلاف الأصل، فلا يصار إليه بلا دليل، فالأولى أن المعنى افتراء أم لم يفتر، بل به جنة، وكلام المجنون ليس بخبر؛ لأنه لا قصد له يعتد به، ولا شعور، فيكون مرادهم حصره في كونه خبراً كاذباً، وليس بخبر فلا يثبت خبر لا يكون صادقاً ولا كاذباً.
  قلنا: كفى دليلاً في التقييد نقل أئمة اللغة واستعمال العرب، ولا نسلم أن للقصد والشعور مدخلاً في خبرية الكلام، فإن قول المجنون أو النائم أو الساهي: زيد قائم، خبر ليس بإنشاء، فيكون خبراً ضرورة أنه لا يعرف بينهما واسطة.
  قالوا: قالت: عائشة ما كذب، ولكنه وهم، فدل على أن ما ليس عن اعتقاد ليس بكذب، وإن خالف الواقع.
  قلنا: هو بمعنى ما كذب عمداً، فأطلقت عاماً وأرادت خاصاً، وهو شائع.
  (والخلاف معنوي) تظهر فائدته قطعاً: فيمن حلف ما كذب أو طلق ما كذب، فمن قال: إن الصدق ما طابق الواقع لم يحنث ولم تَطلُق زوجته إلاَّ مع المخالفة، ولو خالف الاعتقاد، وبعكسه