الباب الثاني عشر من أبواب الكتاب: باب الأخبار
  واحتج النافون: بأن العلم الذي ينشأ من التواتر إن كان استدلالياً فإنما يستدل على صدق خبر الكثرة بحسب القرائن، فما المانع أن يعلم من حال عدد مخصوص أنهم لا يختارون صدق الكذب ولا داعي لهم إليه، لما يعلم من حالهم، ولا يعلم غيرنا ذلك من حالهم، فيجوز عليهم وجهاً مما يدعوه إلى الكذب فلا يعلم صدق خبرهم لقرائن أحوالهم، ولا يعلم صدق مثلهم لفقد تلك القرائن، ولتجويزنا وجهاً من وجوه الدواعي في حق عدد دون آخرين.
  وإن كان ضرورياً فالعلم واقع باختيار الله تعالى، فما المانع أن يختار فعله عند خبر عدد دون خبر مثلهم، ولخبر شخص دون شخص.
  فإن قلت: كان يلزم أن يعلم البعض بوجود مكة دون البعض الآخر.
  قلنا: لا إحالة في ذلك، وسبيله العادة، وإنما استبعد ذلك لأجل حصول العلم بها لجميع الناس، ولو فرض المثال في غيرها لما استبعد.
  فإن قلت: يمتنع لأمر يرجع إلى التكليف، فإن علينا في مخبرات الأخبار المتواترة تكليفاً نحو العلم بمكة والعلم بالنبي والقرآن.
  قلنا: متى لم يفعل في أحدنا العلم بذلك، فلا تكليف عليه فيما يتعلق بمخبره كمن لم يبلغه الخبر، ولا يخفى في اندفاع كلامه على التقدير الأول، ولزومه على الثاني، والله أعلم.
  وقال (المؤيد بالله والمنصور والصاحب وأبو رشيد والحفيد: يجب ذلك في العدد الكثير لا القليل) فيحصل العلم بخبر خمسة دون خمسة؛ لأن القليل يجوز اختلاف العادة فيه، وإن أفاد الضرورة في حال كما يختلف في الحفظ عند الدرس، وإن كان ضرورياً بخلاف العدد الكثير، فإنَّه لا يجوز ذلك.
  وأجيب: بأنه لو لم يطرد أبداً لجوز أن لا يحصل علم بوجود مكة لبعض الناس كما تقدم، وهو محال، وإنما كان محالاً بناء على ما ذكره أهل هذا الفن من اشتراكهم في حصول العلم تيقن استحالة تواطؤ كل عدد تواتري بالغاً ما بلغ على الكذب، واتفاقهم عليه لكثرة أو قرينة حال لازمة للخبر كما مر، فالعلم حينئذ ضروري اعتيادي، وما كان كذلك فمن شأنه اتفاق العقلاء فيه إذا تكاملت القيود المقررة، فيلزم وجوب الاطراد، فلا يفيد العلم لسامع دون آخر.
  وأنت خبير بأن من ذكر لا يخالفون مع تكامل هذه الشروط، ألا تراهم قاسوا ذلك على الدرس، ولا اختلاف إلاَّ مع عدم التساوي في الدارسين.