الباب الثالث عشر من أبواب الكتاب: باب القياس
  ورواية من قدمنا عنهما أو عن أحدهما أنهما يقولان: يستدل عليه بالعقل والسمع وهو الذي يعلم من قصد المؤلف، وإن كان ظاهر عبارته يأباه.
  وتحقيق الخلاف في المسألة أن يقال: التعبد بالقياس إمَّا أن يكون ممتنعاً أو واجباً أو جائزاً، وقد قال بكل منها قائل:
  فعند الأكثر: جوازه، وأوجبه بعضهم عقلاً، ومنع منه بعضهم، والقائلون بالجواز قائلون بالوقوع إلاَّ القليل، والقائلون بالوقوع اختلفوا في ثبوته بدليل السمع أو بدليل العقل: فالأكثر على أنه بدليل السمع، وقيل: بهما، وقيل: بالعقل، المسألة وأطرفهما على هذا.
  إذا عرفت، هذا فلنعد إلى تمشية قول المصنف، فنقول:
  أمَّا الدليل عليه من جهة العقل عند هؤلاء: فهو أنَّا قطعنا بتحريم الخمر مثلاً، ثُمَّ ظنينا أن ذلك إنما كان للشدة المطربة وهي بعينها حاصلة في النبيذ، فإن الظن حينئذ قاضٍ بأن عدم إجراء حكم الخمر عليه باجتنابه يتعلق به الضرر، فيجب العمل بالقياس؛ لأن مخالفته تفيد ظن الضرر؛ إذ قد علمنا أن مخالفة حكم الله تعالى سبب المضرة، والعقول مشيرة إلى وجوب دفع المضرة، فيحرم بذلك الإقدام على شرب النبيذ؛ إذ الإقدام عليه حينئذ كالجلوس تحت حائط وقد قامت فيه أمارة السقوط، وتطرق الخطأ والإصابة إلى الأمارة لا يضر، ولهذا تصرف العقلاء في الأشعار ونحوها مع تجويز العطب لما كان الغالب هو السلامة، فذلك الظن لا يعارض ما علمنا من قضاء العقل بإباحة شرب النبيذ، فيضمحل معه فلا يثبت له حكم.
  قلنا: إنه لم يقض بإباحة شربه مطلقاً، بل شرط عدم أمارة المضرة، وقد وجدت فلا معارضة بينهما فيثبت وقوع التعبد به عقلاً، ويندفع هذا بأن العقل لا يدل على القياس إلاَّ بواسطة شرعية وهي النص على حكم الأصل، وأمارة شرعية على حكم الأصل؛ لأنه يدل على القياس ابتداء.
  وأما من جهة السمع: فهو عمل الصحابة بالقياس، فإنه تكرر وشاع وذاع ولم ينكره أحد، والعادة تقضي بأن التكرر في مثله من الأصول العامة الدائمة - لأنه وفاق - ووفاقهم حجة قاطعة.
  قال ابن الحاجب: ولأنه يثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة أنهم عملوا بالقياس عند فقد النص، والعادة تقضي بأن إجماع مثلهم في مثله لا يكون إلاَّ عن قاطع، فيوجد قاطع على حجتيه قطعاً، وما كان كذلك فهو حجَّة قطعاً، فالقياس حجة قطعاً، والتفاصيل وإن كانت