الباب الثالث عشر من أبواب الكتاب: باب القياس
  وإن أمكن الخطأ تحصيلاً لمصالح لا تحصل إلا به، على ما لا يخفى في تتبع موارد الشرع، ومن طلب الجزم في التكاليف عطل أكثرها](١).
  بيان ذلك: أنها إذا التبست رضيعة لزيد في عشر أجنبيات فلم يجز له نكاح واحدة منهن، وإن غلب على الظن بعلامات أنها أجنبية؛ لاحتمال أن تكون رضيعة له؛ لأن الظن ليس بطريق قاطع كالعلم، فأشبه الجهل من حيث مضادة العلم، فلما كان الجهل قبيحاً في نفسه كان الظن قبيحاً مثله.
  قلنا: العمل على الظن شائع في العقول وهي قاضية بحسنه مرشدة إليه في أحكام المعاملات، وتصديق المخبرين فيما يخبرون به من الأمن والخوف في الطرقات، مع أن أكثر قواعد الشريعة مؤسسة على غلبان الظن في الفتاوى والأقضية والشهادات وأحوال القتلة وغير ذلك، ومن أنكر ذلك والعمل عليه فقد أنكر أصلاً عظيماً من أصول الشريعة، لا يبوء به من وقر الإسلام في صدره، وأيضاً فالتعويل على غلبات الظنون دأب العقلاء وعمل أهل البصائر، وخاصة عند تعارض المشكلات والتباس أحوالها، فإن الرجوع إليها ضروري لا يتسع إنكاره، وامتناع العمل بالظني في بعض الأحوال لمانع خاص.
  قالوا: (ولخفائه)؛ لأنا نعلم بالضرورة أن تنصيص صاحب الشرع على الحكم أظهر في باب البيان من التفويض إلى القياس، (وإغناء النصوص عنه) لأنها تستوعب جميع الحوادث بالأسماء اللغوية، مع أنَّ النص أبلغ وأبعد عن مواقع الخلاف، وأرفع للمنازعة وأجلب للطمأنينة وأبلج للصدور، فالواجب اطراح القياس.
  قالوا: وليس المراد بإغناء النصوص عنه في جميع الأفراد، إنما أردنا التنصيص على القواعد الكلية، واحترزنا بهذا عن الشهادة والفتوى وقيم المتلفات وأروش الجنايات بالأمارات في معرفة القتلة والأمراض والأرباح في الأمور الدنيوية؛ لأن هذه الأشياء تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأمكنة والاعتبارات حتَّى لا يرد علينا أن التنصيص عليها تنصيص على ما لا نهاية له، وإذا تقرر أنه أخفى وأن النص مغنٍ عنه فهو حينئذ اقتصار على أدون البيانين، والاقتصار على أدون البيانين غير جائز مع القدرة على الأعلى؛ لأنه إذا لم يقع البيان على أقصى الوجوه
(١) ما بين القوسين ثابت من الأصل في هامش النسخة (أ)، وهو غير موجود في الأصلية.