(فصل): [في الأحكام التي يجوز ثبوتها بالقياس]
  الوجه الأكمل، وظاهر إطلاق البيضاوي في منهاجه، وحكاية الأسنوي لخلاف الكرخي والجبائي، يقضي بأن عندهما جواز جري القياس فيها؛ لأن البيضاوي قال: الرابعة يجري القياس في الشرعيات.
  نعم، ويجري القياس في كل مسائل الفروع (القابلة للتعليل) من الحدود والكفارات والمقادير والأسباب وغيرها لعموم الأدلة، لا فيما لا يقبل التعليل لانبناء القياس على التعليل.
  وإذا تمهدت هذه القاعدة، فيقول الناظر في ابتداء النظر: يجوز كون الحكم معللاً وغير معلل، فطريق الضبط في ذلك بين ما تعلل وما لا يعلل هو أن الناظر في أول وهلة يحدد غيره بالنظر في الطرق الدالة على إثبات العلل الشرعية ويحضرها في ذهنه كما سيتوضح القول فيها بمشيئة الله تعالى، فإن كانت العلل منصوصاً عليها أو منبهاً عليها بأحد الوجوه المبينة فالقياس جار لا إشكال فيه، وهكذا إذا كانت العلة معروفة بالإجماع، فإن الإلحاق بها جائز لا محالة، فإن لم يجد شيئاً من ذلك فإنه يطلبها في مسالك الاستنباط، فيبدأ أولاً بطلب الإحالة، فإن وجد معنى محتملاً ملائماً لأصول الشريعة قضى به وكان وجهاً في الجمع، وإن لم يجد معنى مناسباً فإنه يلتفت إلى الظاهر، فإن وجده وصفاً شبهياً خاصاً عول عليه؛ لأن الأشباه الخاصة معتمدة في التعليم كالاعتماد على المعاني المناسبة كما سنوضحه إنشاء الله تعالى، فإن لم يعثر الناظر في طلبه على شيء مما ذكرناه فإنه يعلم كون الحكم غير معلل؛ إذ لا سبيل إلى التعليل إلا بواسطة الجمع بالعلة الحاصلة بهذه الطرق، فإذا لم يوجد واحد منها فلا وجه للتعليل وعند هذا يعرف كون الحكم غير معلل.
  ومن بديع سرِّ ما أوردناه من هذا السبر أن الناظر يتوصل إلى كلي التعليل وجزئيه فيعرفهما فيعلم أو لاً بما ذكرنا كون الحكم معللاً إذا وجد فيه نوعاً من هذه الطرق الدالة على العلة وهو الكلي، ثُمَّ يعرف بما ذكرنا أيضاً العلة بعينها وهو الجزئي وستقف إنشاء الله على أمثلة ما لا يعلل.
  (و) قول أئمتنا والشافعية مبني على المختار من أنه (ليس في الشرع جمل من الأحكام لا يجوز قيام دليل على عللها) لأنها تعبدات محضة (فيمتنع القياس عليها) بل ما منٍ حكم شرعي إلا وهو يجوز قيام الدليل على علته، إمَّا بالنص أو غيره؛ لأن كل الأحكام صالحة للتعليل (غير المستثنى) من الأحكام الشرعية كالمعدولة عن سنن القياس وأصول الشرائع، فكل مسألة فهي بحيث يحتاج إلى النظر في أنها هل يجري فيها القياس أو لا؟.