(فصل): [في أسباب الإختلاف في المسائل]
[فيما ينقض حكم الحاكم المجتهد]
  (ولا ينقض حكم حاكم مجتهد) فلا يجوز من المجتهد نقض حكم نفسه إذا تغير اجتهاده، ولا حكم غيره إذا خالف اجتهاده واجتهاده، (إلا بمخالفة قاطع) من كتابٍ أو سنَّة أو إجماع أو قياس؛ إذ لا يبطل العلم بالظن، وإنما لم ينقض، لأنه يؤدي إلى نقض النص من مجتهد آخر، ويتسلسل، وثبوت مصلحة نصيب الحاكم وهو فصل الخصومات.
  (وقيل: ينقض ما خالف قياساً جلياً) وادعى بعضهم الاتفاق على ذلك.
  قال في المستصفى: فإن أرادوا به قياساً مظنوناً مع كونه جلياً فلا وجه له؛ إذ لا فرق بين ظن وظن، فإذا انتفى القاطع، فالظن يختلف بالإضافة لا سبيل إلى تثبته.
  ومما استدل به على ذلك: حديث علي كرم الله وجهه بأن شهادة المولى لا تقبل، بالقياس الجلي وهو أن ابن العم تقبل شهادته مع أنه أقرب من المولى، وهذا الحديث قال فيه بعض النقاد: لم أجده.
  نعم، حكى هذا القول في البحر عن الغزالي، قال ما نصه: الغزالي وينقض ما خالف قياساً جلياً كحكم الظاهرية، ولو خالفه قياس خفي، كالاستحسان مع القياس، ومن ثَمَّ نقض الشافعي الحكم بتزويج امرأة المفقود بعد أربع سنين.
  قلنا: مالم يخالف قطعياً فلا وجه لنقضه.
  (أو) كان الاجتهاد (عن قياس يخالف نصاً صريحاً آحادياً) فإنه ينقض، وهذا القول لصاحب جمع الجوامع، وحكاه في البحر عن الإمام يحيى والشافعي وأصحابه، وعبارة البحر: ولو آحادياً، إذ شرط صحة القياس ألا يعارض نصاً، لقوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.
  ومما استدل به على ذلك: حديث عمر الذي أخرجه الخطابي في المعالم، عن سعيد بن المسيب: أنه كان يجعل في الإبهام خمسة عشر، وفي التي يليها عشرة، وفي الوسطى عشرين، وفي التي تلي الخنصر سبع، وفي البنصر ست، حتَّى وجد كتاباً عند عمرو بن حزم عن رسول الله ÷ قال: «إن الأصابع كلها سواء»، فأخذ به فنقض حكمه السابق، وروى الشافعي مثله.
  قال في البحر: قلت: الأقرب أن لا ينقض بذلك لوقوع الخلاف في الترجيح بين الخبر الآحادي والقياس الظني من الأصوليين، والحكم برفع الخلاف فيصير قاطعاً، فلا ينقض بظني.