عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح،

بهاء الدين السبكي (المتوفى: 763 هـ)

الفن الثاني علم البيان

صفحة 208 - الجزء 2

  


  الصارف إلى الكناية القرينة، وكيف لا والكناية على خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الكلام أن يراد به ما استعمل فيه وكل خلاف الأصل محتاج إلى القرينة، وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}⁣(⁣١) في سورة آل عمران وهو مجاز عن الاستهانة بهم، تقول: «فلان لا ينظر إلى فلان» تريد نفى الاعتداد به، فإن قلت: أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت: أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، فإن من اعتد بإنسان أعاره نظره ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد، والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر انتهى. فجعله الزمخشري في حق من لا يجوز عليه النظر مجازا وفي غيره أصله كناية، ثم كثر فصار مجازا، فدل على أنه حيث تمكن الحقيقة تصح الكناية، والمجاز جميعا بحسب الإرادة، فإن أردت نفى النظر ليدل على نفى الاعتداد فكناية، وإن استعملته في نفى الإحسان كان مجازا، وأشار الزمخشري في كلامه السابق إلى أن الكناية، والمجاز قد يجتمعان؛ لأنه جعله في حق من يجوز عليه النظر أصله الكناية، ثم صار مجازا، واعلم أن هذا الكلام من الزمخشري يوهم أن الكناية قد تكون مجازا، وقد صرح بذلك، قال في قوله: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ}⁣(⁣٢) الكناية أن تذكر الشئ بغير لفظه الموضوع، والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شئ لم تذكره، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام غيره، وقد يقال: إن الكناية قسمان تارة يراد بها المعنى الحقيقي ليدل بها على المعنى المجازى فيكون حقيقة، وتارة يراد بها المعنى المجازى لدلالة المعنى الحقيقي الذي هو موضوع اللفظ عليه فيكون من أقسام المجاز، وقول من قال: «الكناية لا تنافى المجاز» يريد أنها قد تأتى كذلك لمجئ بعض أقسامها عليه فهي إما مجاز خاص، أو حقيقة خاصة، وتريد بقولنا: «خاص» أن الحقيقة والمجاز يراد بهما معناهما من حيث هما هما، والكناية يراد بها المعنى الحقيقي من حيث كونه دالا، والمعنى المجازى من حيث كونه مدلولا، ولعله المراد من إطلاق الفقهاء الكناية على المعنى المجازى، وسنتكلم عليه - إن شاء اللّه تعالى - ومما يشهد أن الكناية قد تكون نوعا من المجاز قول عبد اللطيف في قوانين البلاغة: «وقيل: المجاز اسم جنس تحته أنواع: الاستعارة، والتمثيل،


(١) سورة آل عمران: ٧٧.

(٢) سورة البقرة: ٢٣٥.