الفن الثالث: علم البديع
  
  نظرا إلى ما دل عليه بالنسبة إلى ما دل عليه مطلق اسم الفاعل، فليتأمل. ثم قال الرماني:
  من المبالغة التعبير بالصفة العامة في موضع الخاصة، كقوله ø: {خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}(١) قال: وكقول القائل: أتاني الناس ولعله لا يكون أتاه إلا خمسة، فاستكثرهم وبالغ في العبارة عنهم. قلت: هذا صحيح، إلا أن التقييد بالخمسة لا أدرى مستنده فيه، وقد أطلق الناس على واحد، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ}(٢) وأريد نعيم بن مسعود على ما ذكره جماعة على أن الشافعي رضى اللّه عنه نص على أن اسم الناس يقع على ثلاثة فما فوقها، وأن المراد بالناس في قوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ}(٢) أربعة ثم جعل الرماني من المبالغة إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم للمبالغة كقوله تعالى: {وَجاءَ رَبُّكَ}(٣)، {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ}(٤) وإن كان المراد جاء أمره، وجعل من المبالغة إخراج الممكن إلى الممتنع مثل قوله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ}(٥) وجعل من المبالغة إخراج الكلام مخرج الشك، ومثله بقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(٦) ونحو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ}(٧) وجعل منه حذف الأجوبة للمبالغة نحو: {وَلَوْ تَرى}(٨) وهذا كله عرف مما سبق من علم المعاني والبيان. قال عبد اللطيف البغدادي: ومتى وقعت المبالغة في قافية سميت إيغالا وهو أن يأتي البيت تاما من دون القافية، ثم تأتى القافية لحاجة البيت إلى الوزن فيزداد المعنى جودة وأنشد:
  كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الّذى لم يثقّب(٩)
  وقد تقدم هذا في باب الإيجاز والإطناب.
  (تنبيه): سمعت بعض المشايخ يقول: إن صفات اللّه - تعالى - التي هي على صيغة المبالغة كغفار، ورحيم وغفور، ومنان، كلها مجازات، وهي موضوعة للمبالغة ولا مبالغة
(١) سورة الزمر: ٦٢.
(٢) سورة آل عمران: ١٧٣.
(٣) سورة الفجر: ٢٢.
(٤) سورة النحل: ٢٦.
(٥) سورة الأعراف: ٤٠.
(٦) سورة سبأ: ٢٤.
(٧) سورة الزخرف: ٨١.
(٨) سورة السجدة: ١٢.
(٩) البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ٥٣، ولسان العرب ٨/ ٤٨ (جزع)، وأساس البلاغة ص ٥٨ (جزع)، وكتاب العين ١/ ٢١٦، وتاج العروس ٢٠/ ٤٣٤ (جزع).