الفن الثالث: علم البديع
  والثاني: أن يثبت لشئ صفة مدح، ويعقّب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له؛ نحو: أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش وأصل الاستثناء فيه - أيضا - أن يكون متصلا كالضّرب الأوّل؛ لكنّه لم يقدّر متصلا؛ فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني؛ ولهذا كان الأول أفضل.
  ومنه ضرب آخر؛ وهو نحو: {وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا}(١) والاستدراك في هذا الباب كالاستثناء؛
  (الثاني، أن يثبت لشئ صفة مدح وتعقب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له، كقوله ﷺ: (أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أنى من قريش)(٢) وأصل الاستثناء فيه) أي في هذا الضرب (أن يكون منقطعا) لكنه لا يقدر متصلا كما قررناه في الضرب قبله، فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني، وهو أن سامعه يتوهم أولا ثبوت صفة ذم ثم يزول ذلك، ويتأكد المدح بتكرره بخلاف الأول فإنه يفيده بالوجهين السابقين؛ فلذلك قلنا:
  الأول أفضل قال في الإيضاح: وأما قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً}(٣) فيحتمل الوجهين وأما قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً}(٤) فيحتملهما، ويحتمل وجها ثالثا، وهو أن يكون الاستثناء من أصله متصلا؛ لأن معنى السّلام هو الدعاء بالسلامة، وأهل الجنة عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من قبيل اللغو، لولا ما فيه من فائدة الإكرام، ثم قال المصنف: (ومنه) أي من تأكيد المدح بما يشبه الذم (ضرب آخر) أي ثالث وهو نحو قوله تعالى: {وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا} أي ما تعيب منا إلا أصل المفاخر وهو الإيمان، وإنما جعل هذا ضربا ثالثا؛ لأن الاستثناء فيه مفرغ وفي الأولين تام، والاستثناء فيه متصل حقيقة، وفي الأولين منقطع، واتصاله في أحدهما بالفرض لا حقيقة. قلت: لم يظهر لي أن هذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ لأنهم لم يستثنوا الإيمان من العيب، وإنما استثنوه مما لا يعيب، ولا يلزم من كونه يعيب الإيمان بكفره وأن يكون عيبا معناه
(١) سورة الأعراف: ١٢٦.
(٢) «لا أصل له، ومعناه صحيح»، أورده العلامة الشوكاني في «الفوائد المجموعة» (٢/ ٤١٣)، والعجلوني في «كشف الخفاء»، (١/ ٢٠١)، وقال: «قال في اللآلئ: معناه صحيح، ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ، وأورده أصحاب الغريب، ولا يعرف له إسناد ...»
(٣) سورة الواقعة: ٢٥، ٢٦.
(٤) سورة مريم: ٦٢.