[كذا]:
  ولابنِ فارِسٍ أَحْمد بن الحُسَيْنِ بنِ زَكَرِيّا صاحِب المُجْمل وغيرِه في أَحْكامِ كَلَّا مُصَنَّفٌ مُسْتَقِلٌّ.
  وحاصِلُ ما فيه وغَيْرِه مِن الكُتُبِ ما أَوْرَدَه المصنِّفُ في البَصائِرِ قالَ: هي عنْدَ سِيبَوَيْه والخليلِ والمبرِّد والزَّجَّاج وأَكْثَر نُحَّاةِ البَصْرةِ حَرْفٌ مَعْناهُ الرَّدْعُ والزَّجْر لا مَعْنى له سِواهُ، حتى إنَّهم يُجِيزُونَ الوَقْفَ عليها أَبَداً والابْتِداء بما بعْدَها، حتى قالَ بعضُهم: إذا سَمِعْت {كَلّا} في سُورَةٍ فاحْكُم بأنَّها مَكِّيَّة لأنَّ فيها مَعْنى التَّهْديدِ والوَعِيدِ، وأَكْثَرَ ما نَزَلَ ذلكَ بمكَّةَ، لأنَّ أَكْثَر العُتُوِّ كانَ بها، وفيه نَظَرٌ، لأنَّ لزومَ المكِّيَّة إنَّما يكونُ عن اخْتِصاصِ العُتُوِّ بها لا عن غَلَبةٍ(١) ثم إنَّه لا يَظْهَر مَعْنى الزَّجْر في كَلَّا المَسْبُوقَة بنَحْو {فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ}(٢) {... يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}(٣) {... ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ}(٤)، وقولُ مَنْ قالَ: فيه رَدْعٌ عن تَرْكِ الإيمانِ بالتَّصْويرِ في أَيِّ صُورَةٍ شاءَ الله، وبالبَعْث، وعن العَجَلةِ بالقُرْآنِ فيه تَعَسُّفٌ ظاهِرٌ، والوَارِدُ منها في التَّنْزيلِ ثلاثَةٌ وثَلاثُونَ مَوْضِعاً كُلُّها في النِّصْف الأخيرِ.
  ورَوَى الكِسائي وجماعَةٌ(٥): أَنَّ مَعْنى الرَّدْعِ ليسَ مُسْتمرًّا فيها، فَزَادوا ومَعْنًى ثانِياً يصحُّ عليه أَنْ يُوقَفَ دُونَها ويُبْتَدأَ بها، ثم اخْتَلَفُوا في تَعْيِين ذلكَ المَعْنى على ثلاثَةِ أَقْوالٍ: فقيلَ بمعْنَى حَقّاً، وقيلَ بمعْنَى إلَّا الاسْتِفْتاحِيَّة، وقيلَ: حَرْفُ جَوابٍ بمنْزِلَةِ إي ونَعَم، وحَمَلُوا عليه {كَلّا وَالْقَمَرِ}(٦)، فقالوا: مَعْناه إي والقَمَر، وهذا المَعْنى لا يَتَأَتَّى في آيَتَي المُؤْمِنِين والشُّعراء. وقولُ مَنْ قالَ بمعْنَى حَقًّا لا يَتَأَتَّى في نَحْو: {كَلّا إِنَّ كِتابَ الفُجّارِ}(٧) {... كَلّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}(٨)، لأنَّ أن تُكْسَرُ بعْدَ أَلا الاسْتِفْتاحِيَّة ولا تُكْسَر بعدَ حَقًّا ولا بعْدَ ما كانَ بمَعْناها، ولأنَّ تغير(٩) حَرْف بحَرْفٍ أَوْلى مِن تغيرِ(٩) حَرْفٍ باسْمٍ، وإذا صَلَح المَوْضِع للرَّدْع ولغيره(١٠) جازَ الوَقْفُ عليها والابْتِداءُ بها على اخْتِلاف التَّقْدِيرَيْن، والأَرْجَح حَمْلها على الرَّدْع لأنَّه الغالِبُ عليها، وذلك نحو: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ٧٨ كَلّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ}(١١) {... وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ}(١٢)؛ وقد يَتَعَيَّن للرَّدْعِ أَو الاسْتِفْتاح نحو: {رَبِّ ارْجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلّا إِنَّها(١٣) كَلِمَةٌ} لأنَّها لو كانتْ بمعْنَى حَقًّا لمَا كُسِرَتْ هَمْزةُ إنّ؛ ولو كانتْ بمعْنَى نَعَم لكانَتْ للوَعْد بالرّجُوعِ لأنّها بعْدَ الطَّلَب كما يقالُ: اكرم فلاناً فيقولُ نَعَم؛ ونحوَ: {قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنّا لَمُدْرَكُونَ ٦١ قالَ كَلّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ}(١٤) وذلكَ لكَسْر إن، ولأنَّ نَعْم بعْدَ الخَبَر للتَّصْدِيقِ، وقد يَمْتنعُ كَوْنها للزَّجْرِ وللرَّدْعِ نحو: {وَما هِيَ إِلّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ كَلّا وَالْقَمَرِ}(١٥)، إذ ليسَ قَبْلَها ما يصحُّ رَدّه؛ وقوله تعالى: {كَلّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ} قُرئَ بالتّنْوين على أنَّه مَصْدرُ كَلَّ إذا أَعْيَا، وجَوَّزَ الزَّمَخْشري كَوْنَه حَرْف الرَّدْع نونِّ كما في سلاسلاً(١٦) ورَدَّ(١٧) بأَنَّ سلاسلا اسْمٌ أَصْلُه التَّنْوين فَردَّ إلى أَصْلِه، ويُصَحِّح تأْوِيل الزَّمَخْشري قِراءَة مَنْ قَرَأَ واللّيْل إذا يسر(١٨)، بالتَّنْوين، إذا الفِعْل ليسَ أَصْلُه التَّنْوين. وقال ثَعْلَب: كَلَّا مُرَكَّبَةٌ مِن كافِ التّشْبيِه ولا النَّافيةِ، وإنَّما شُدِّدَتْ لامُها لتَقْوِيَةِ المَعْنى ولدَفْع تَوَهّم بَقَاء مَعْنى الكَلِمَتَيْن؛ وعنْدَ غَيْرِهِ بَسِيطة كما ذَكَرْنا. هذا آخِرُ ما أَوْرَدَه المصنِّفُ في البَصائِرِ.
(١) في مغنى اللبيب ص ٢٤٩: عن غلبته.
(٢) سورة الأنفطار، الآية ٨.
(٣) سورة المطففين، الآية ٦.
(٤) سورة القيامة، الآية ١٩.
(٥) في مغني اللبيب ص ٢٥٠: ورأي الكسائي وأبو حاتم ومن وافقهما.
(٦) سورة المدثر، الآية ٣٢.
(٧) سورة المطففين، الآية ٧.
(٨) سورة المطففين، الآية ١٥.
(٩) في مغني اللبيب ص ٢٥٠: تفسير.
(١٠) عن مغني اللبيب وبالأصل «تغير».
(١١) سورة مريم، الآية ٧٨ و ٧٩.
(١٢) سورة مريم، الآية ٨١ و ٨٢.
(١٣) سورة المؤمنون، الآية ١٠٠.
(١٤) سورة الشعراء، الآية ٦١ - ٦٢.
(١٥) سورة المدثر، الآية ٣١ - ٣٢.
(١٦) سورة الإِنسان، الآية ٤.
(١٧) هو أبو حيّان، وقد ردّ ما ذكره الزمخشري، أفاده.
(١٨) سورة الفجر، الآية ٤.